علم نبيل.. ولكن
علم نبيل.. ولكن!
د. سلمان بن فهد العودة
كلما قرأت حديث النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ عن الطب تداعى إلى ذهني سؤال: ماذا كان وقع هذا الحديث على المسلمين عبر العصور السالفة؟
يقول ــ صلى الله عليه وسلم ــ فيما رواه البخاري: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء».
وفي رواية: «علمه من علمه وجهله من جهله».
هذا التصريح النبوي المحكم بأن كل مشكلة لها حل، أنزله الله، وبإمكان الناس أن يتعرفوا عليه ليستخدموه ويطوروه.
أي تحفيز أعظم من هذا لإنسان تعتوره الآفات والأمراض في نفسه وفي ولده الغالي وزوجه الحبيب وصديقه الأثير ووالده العزيز؟!
أن يعلم أن فيما حوله وسيلة لرفع المعاناة وكشف الضر بإذن الله، خالق الداء والدواء؟!
إنها دعوة للبحث والتنقيب والاكتشاف والانفتاح على خبرات الآخرين من الشرق والغرب، والإضافة إليها والتعاطي معها بإيجابية باعتبارها تراثا إنسانيا مشتركا يسهم في نهاية المطاف في حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
وفي صحيح مسلم؛ من حديث جدامة بنت وهب الأسدية، أنها سمعت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئا»، والغيلة، هي أن يأتي الرجل امرأته المرضعة.
والنبي صلى الله عليه وسلم هنا يقول «فنظرت»!!
التجارب الأممية البشرية النافعة معنى مشترك؛ يستفيد منه الناس بعضهم من بعض، كما أن الاستفادة من الأخطاء والسلبيات إنما تكون باجتنابها لا باقتفاء أثرها.
وخليق بأمة عندها مثل هذا الحديث النوراني الذي يدلها على المفتاح ويطلب منها الاجتهاد أن تكون أرقى الأمم.
إن كليات الطب في عالمنا الإسلامي تدرس الطب باللغة الإنجليزية، وأفضلها حالا وأجودها مستوى وأقلها عددا هي التي تستطيع أن تواكب مستجدات النظريات الطبية والعلمية، وما أصعب ذلك بالقياس إلى جامعات عريقة ومستشفيات ضخمة في العالم، تجري دراسات هائلة، وتبذل مئات الملايين من الدولارات في سبيل الوصول إلى المعلومات وما الحديث عن زراعة ما يسمى بالخلايا الجذعية والعصبية إلا شيء مذهل يدير الرؤوس؛ من هذه العلوم التي يفترض أن يكون المسلمون أولى بها؛ لأن قرآنهم أول ما نزل تكلم عنها في الآيات الخمس الأولى التي نزلت بغار حراء «اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الأنسان من علقٍ * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الأنسان ما لم يعلم) (العلق: 5)
لماذا غفلت حضارتنا الإسلامية عن هذا حتى قال الشافعي ــ رحمه الله ــ عن الطب: «لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه».
وقال حرملة: كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: «ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى!».
ولماذا أصبح المسلمون في عصرنا بهذا القدر من البعد عن قضايا الطب والتقنية والعلم؟
ولماذا لم يلتقطوا هذا الخيط الباعث على الإبداع والعمل الحضاري في كتاب ربهم وسنة نبيهم، مع قراءتهم للقرآن والحديث في كل المجالات العلمية والعملية من زراعة، وصناعة، وطب وعلوم الإنسان، وعلوم الحياة وغيرها؟
لن نعجز عن قراءة ما سطره الكاتب البرازيلي (جيلبير تو فريري) في كتابه «عالم جديد في الأوساط الاستوائية» وهو يقول: إن هذا الكتاب سيقيم الدليل، على أهمية إسهام العرب في تكوين الإنسان البرازيلي.
وسنجد في تاريخنا أطباء مهرة، ومؤلفين حذاقا اعتمدت عليهم أوروبا في علمها ردحا من الزمن.
لكن سيكون مؤكدا أن حجمهم لا يقاس بحجم المؤرخين أو الشعراء أو الباحثين أو الفقهاء .. أو حتى الأطباء الشعبيين الذين لا يفرق بعضهم بين شكوى وشكوى في عصر تحاول فيه تقنية «النانو» أن تصمم لكل مريض دواء شخصيا يراعي ظروفه الذاتية ومدى وجود السكر أو الكولسترول أو الضغط أو أي معاناة أخرى لديه.
لا شك بأن ثمة خللا كبيرا وشرخا واسعا في الابتعاد عن الهدي الرباني والعلم الإسلامي.
لقد خلق الله الإنسان وجعل له كل ما في الأرض «الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا» (البقرة: من الآية 29) ، واستعمره فيها، «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (هود: من الآية 61) ، وجعل هذا الإنسان بعقله وعلمه مسلطا على هذا الشأن الأرضي بصناعتها وزراعتها ورعايتها وبعثها، وحث الإنسان على النظر إلى ملكوت الله وإلى أرضه ليكتشف فيها القوانين الإلهية في قيام الحضارات وانهيارها كأسباب رقيها وتمدنها وجعل ذلك كله باعثا له للعمل على سقي الحياة وبعثها ورعايتها بالروح والقوة والمادة.
فالعلم الذي يقرب إلى الله هو كل علم صالح نافع يقوم على عمارة الدنيا وسياستها وإقامة الدين بها، أو كما يقول الإمام الماوردي: ما أدى الفرض وعمر الأرض.
لنا أن نقول: إن الوصول بالحضارة الإسلامية إلى قمتها لا يلزم أن يتم خلال حقبة زمنية .. وكم ترك الأول للآخر؟
وثم جانب من الطب له علاقة بمجموعة من الكشوف والتطورات والمعارف التي جاءت مع الثورات المعرفية الحديثة .. لا علينا.
فالعلم ليس له جنسية ولا لون ولا مذهب، بل هو معنى إنساني تراكمي، تتوارثه الأمم وتتناقله الأجيال، فيا ليت أننا نقدر على مواكبة كشوف العلم المذهلة أو الاقتباس منها.
قبل أيام قرأت كتاب «مستقبلنا بعد البشري» لفرنسيس فوكوياما .. فكان فرحي أن الكتاب ترجم بلغة عربية وأصبح في أيدي قرائها.
فمتى نفرح بأن يكون منا من يبدعون ويعكفون ويضحون وليس همهم فقط أن يعملوا مفرقعات إعلامية تشغل الناس لبعض الوقت.
المصدر: صحيفة عكاظ