بداية عام جديد
بداية عام جديد
د. علي جمعة
يستطيع المسلم أن يبدأ كل يوم عاما جديدا, وبعد العيد يمكن أن نبدأ عاما جديدا ينتهي في رمضان من العام المقبل, ولقد رأينا الشرع وهو يدعو دائما الي التجديد فيقول رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: جددوا إيمانكم, قيل: يارسول الله وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله( مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم), فالرغبة في التجديد نجدها دائما في ثنايا الأوامر الإلهية في مثل قوله تعالي: وذكر فإن الذكري تنفع المؤمنين[ الذاريات:55], والشرع يقول لنا دائما هيا نبدأ من جديد, وهو أمر يتناسب مع الضعف البشري, وفي الحديث: كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون( الترمذي وابن ماجه), فكثرة التوبة تتناسب مع كثرة الخطأ, وخلق الإنسان ضعيفا, ويساعد علي فكرة التجديد هذه المحطات التي يغفر الله لنا ما بينها, ففي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كان يقول: الصلوات الخمس, والجمعة الي الجمعة, ورمضان الي رمضان, مكفرات ما بينهن اذا ما اجتنبت الكبائر( صحيح مسلم).
1 ـ أما بخصوص ما بعد رمضان فقد تعلمنا منه أن الهدف الأساسي من الصيام هو محاولة الوصول الي التقوي, والتقوي تشتمل علي الوقاية بأصل اللغة, فهي تقي الإنسان الانحراف, فهي تحاول أن تفتح باب التوبة للمرتشي العاصي وللسارق وللمغتصب وللظالم حتي يقلعوا عن معاصيهم ويندرجوا في مفهوم المواطن الصالح, ولذلك وصف النبي صلي الله عليه وآله وسلم الصيام بأنه جنة أي حصن ووقاية للإنسان من الزلل والشهوات, قال تعالي: ياإيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون[ البقرة:183].
2 ـ ويؤخذ من صيام من قبلنا وأنواعه التي تحول بعضها في شريعتنا الي مرتبة النافلة, وبقي بعضها في مرتبة الفريضة وألغي بعضها رحمة وتخفيفا من ربنا ما نستطيع أن نجعله برنامجا عمليا لنا بعد رمضان, وهو ما أرشد إليه أهل الله من المسلمين في طريق سلوكهم الي رب العالمين, ويتمثل ذلك في أربعة عناصر وهي: قلة الطعام, وقلة الكلام, وقلة المنام, وقلة الأنام.
3 ـ أما قلة الطعام: فالنبي صلي الله عليه وآله وسلم يقول: حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه( الترمذي والنسائي وابن ماجه), وكان صلي الله عليه وآله وسلم يصوم يومي الاثنين والخميس, وكان يصوم ثلاثة أيام من وسط الشهر, الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر, وكان يصوم يوم عاشوراء وهو العاشر من المحرم, وكان يصوم الستة من شوال, ويصوم الأيام التسعة الأوائل من ذي الحجة, وفي بعض الأحيان كان يصوم السبت والأحد, وفي بعض الأحيان كان يصوم شهر المحرم كله أو شهر شعبان كله, كما ورد في الحديث, ومن جمع بين هذه الصوائم كلها وجد وكأنه يصوم نصف السنة خلا رمضان, وكان يقول: أعدل الصيام عند الله هو صيام داود, كان يصوم يوما ويفطر يوما( البخاري ومسلم).
4 ـ وقلة الكلام, فقد نهانا الله سبحانه وتعالي عن كثرة الكلام فنهانا عن اللغو, قال تعالي: والذين هم عن اللغو معرضون[ المؤمنون:3], وقال: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما[ الفرقان:72], وفي حديث معاذ وهو يسأل النبي صلي الله عليه وسلم: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: وهل يكب الناس علي وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم!( رواه الترمذي), وكان يقول: إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا, وقلة منطق, فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة( رواه ابن ماجه), ومدح الله سبحانه وتعالي هذا الصنف من الناس, فقال: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب[ البقرة:269], وكان صلي الله عليه وآله وسلم يقول: من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه( أي فكه) أضمن له الجنة( البخاري والترمذي), ولو أن الناس وضعوا هذا في برنامجهم اليومي لتغير وجه الاجتماع البشري من الصدام الي الوفاق ومن القسوة الي الرحمة ومن العنف الي الود.
5 ـ أما قلة المنام: فهي علامة علي كثرة العمل, ونراها في الارشادات الإلهية, حيث يقول لنبيه: قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا[ المزمل:2 ـ4], وفي مثل قوله: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسي أن يبعثك ربك مقاما محمودا[ الإسراء:79], وفي مثل قوله صلي الله عليه وآله وسلم: أفلا أكون عبدا شكورا( البخاري ومسلم), وتدريب الجسد علي قلة المنام أمر يحتاج الي أناة وصبر ومعالجة بالحكمة حتي لا يصاب الإنسان بأي ضرر, فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي.
6 ـ أما قلة الأنام: فنظمت في الدين بالاعتكاف, قال تعالي مخاطبا إبراهيم وإسماعيل: أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود[ البقرة:125], ثم أيد الإسلام ذلك فكان النبي صلي الله عليه وآله وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان, وجاءه الوحي وهو معتكف في غار حراء حيث كان يتعبد الليالي ذوات العدد بعيدا عن الناس, وهذا يتيح للإنسان فرصة لمراجعة النفس والتأمل في كيفية الخروج من العيوب وأخذ قرارات لتعديل السلوك وتغييره, وتعديل السلوك أصبح قسما مستقلا من علم النفس في السنين الأخيرة.
المصدر: صحيفة الأهرام