• ×
admin

مانسمعه ولا نراه

مانسمعه ولا نراه!

فهد عامر الأحمدي

قالت العرب قديماً \"من شاهد ليس كمن سمع\" كون الرؤية بالعين أصدق وأكثر تأكيداً من سماع أحاديث لا تثق بمصدرها..

ولكن العرب قالت أيضا إن الغول والعنقاء والسعلية من الأمور التي نسمع بها ولا نشاهدها - واعتبروها مع \"الخل الوفي\" من رابع المستحيلات!!

... ووجود أشياء تُسمع ولا تُرى (ومع ذلك تملك تأثيرا قويا في عقول الناس) ظاهرة إنسانية ملاحظة في كافة المجتمعات .. ففي التراث الصيني مثلًا يملك التنين حضورا عقليا كبيرا رغم أن أحداً من الصينيين لم يشاهده في حياته .. وقل الشيء نفسه عن دراكولا في التراث الغربي حيث يملك مصاص الدماء حضورا قويا (ترتب عليه ظهور آلاف الروايات والأفلام السينمائية) ومع هذا لم يشاهده أو يثبت وجوده أحد..

وحتى حين نتأمل مجتمعنا المحلي هذه الأيام نكتشف حضورا قويا لأمور نسمع بها ولكننا لا نراها .. فبالإضافة لتناقلنا خرافات التراث القديم نسمع مثلا بزواج المسيار، وسحر الإندونيسيات، ونظرية المؤامرة، ووجود أشباح ساكنة - بل وحتى وجود مواطن غلبان ربح في سوق الأسهم السعودية .. وهذه مجرد أمثلة لأمور نتحدث بها دائما (وقد نحولها الى قضايا وطنية ملحة تشغل الصحف وفضاء الإنترنت) دون أن نراها فعليا أو نحتك بها شخصيا .. وهي في نظري مجرد نسخة مطورة من العنقاء والغول والسعلية التي شغلت الفكر العربي أيام الجاهلية (وملأت العقول والأفئدة ودواوين الشعر) دون أن يلقاها أو يحتك بها إنسان ...

والسؤال هو: لماذا...؟

* لماذا يختلق البشر أموراً غير مشاهدة أو مجربة ؟

* لماذا يؤمنون بأمور غير عقلانية ثم يدافعون عنها بقوة؟

... في البداية لابد من الاعتراف باحتمال (ولاحظ ؛ احتمال) وجود نواة للحقيقة تتمحور وتتضخم بمرور الزمن.. وبالإضافة لسماعك المبالغات حولها (من عدة مصادر تعود لطفولتك الأولى) يصبح تبني ما يماثلها، واختراع ما يوائمها، ضرورة لتدعيم موقفك الشخصي وأفكارك الذاتية وأحكامك المسبقة .. فمن السهل على عقولنا تقبُّل خرافة تتوافق معها على تقبل حقيقة تتناقض معها ؛ ومن السهل علينا تصديق رجل كاذب يخبرنا بما نود سماعه، على سماع رجل صادق يخبرنا بما يخالف معتقداتنا السابقة...

فمن المفترض عقلًا أننا نمر بالتجربة (أولا) ثم نؤمن بوجودها ونبدأ بالحديث عنها ؛ فحين تسافر الى منطقة جميلة (مثلا) فإنك تشاهد الواقع بأم عينيك فيتولد لديك دافع للحديث عنها وإقناع الآخرين بوجودها .. أما حين يحدث العكس ويتشكل لديك دافع الحديث عن منطقة كهذه ولكنك في نفس الوقت لم ترها أو تعجز عن إثبات وجودها ستبدأ في تبني الأساطير والخرافات والمزاعم حولها ..

وبنفس الطريقة؛ حين يتوفر لديك دافع للحديث عن زواج المسيار أو سحر الشغالات أو وجود مؤامرة ضد البورصة السعودية ستبدأ في تبني وتناقل وربما فبركة المزاعم حولها (رغم علمك بحديث الرسول: بئس مطية الرجل زعموا)!!

أما الأسوأ من سماع المزاعم فهو نقلها للآخرين بطريقة تضفي عليها مزيدا من التأكيد والمصداقية .. فنحن بدون أن نشعر ننتقل بسرعة من مرحلة الاستماع والقبول والتصديق، إلى مرحلة التبني والإيمان والإضافة خصوصا حين تكون دوافع المستمع أقوى من دوافع المخبر..

ورغم عدم إنكاري احتمال وجود قدر من الصحة في (بعض) المزاعم التي نتناقلها ، إلا أنني أعترض على الهوس بوجودها ، واستمرارية ترويجها ، واستقطاعها مساحة ضخمة من تفكيرنا واهتماماتنا وتربيتنا لأطفالنا .. فبهذه الطريقة نقدم أنفسنا كقرابين للفكر الخرافي، ونخلق بأيدينا سوقاً للترهات يملؤه مدّعو العلم والطب والشعوذة وفك الطلاسم..

مانحتاجه فعلًا هو أن نصمت لجيل واحد فقط ونكسر حلقة تناقل الخرافات بيننا وبين أطفالنا... (وكفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع) !!

المصدر: صحيفة الرياض
بواسطة : admin
 0  0  1614