بائعة الورد
بائعة الورد
د. ميسرة طاهر
كان نهارا صيفيا حارا، والجميع متشوقا للوصول إلى نهر النيل ليلا، وقفنا على جسر قصر النيل، واستقبلتنا نسمة جميلة داعبت وجوهنا جميعا، كنا نقف صفا واحدا بجواري أحد أطفالي وعن يمينه عمته وإحدى بناتها، وعن يساري زوجها وبنتها الأخرى، والناس فوق الجسر يتحدثون ويضحكون وفي المراكب يرقصون ويغنون، شعرت وأنا مغمض العينين وكأن النسمات الجميلة أم حنونة تداعب خصلات شعر طفل هده النعاس بعد تعب يوم مضن، لم أستفق من سرحاني إلا على صوت شابة أسمعها تقول لشقيقتي: ربنا يخليلك بناتك، ربنا يعطيك سبعين مليون دولار، ضحكت شقيقتي وضحكنا معها وبناتها يتساءلن: لماذا سبعين مليون دولار؟ وبائعة الورد لا تجيب ولكنها تعيد دعواتها، ولم تلبث شقيقتي أن دفعت لها بعض المال رغبة منها في الخلاص من إلحاحها، وأخذت وردة القرنفل الحمراء وأعطتها لطفلي الصغير الذي شم رائحتها ثم قربها من أنفي لأشم رائحة زكية زاد جمالها ذلك النسيم العذب، تجاوزتني ووقفت أمام زوج شقيقتي لتدعو له هذه المرة بدعوة كانت تتناسب مع وضع الشعر في رأسه وصارت تقول: ربنا يطلعلك شعر، ربنا يطلعلك شعر، ضحكت حتى ذرفت الدموع، ومع كل جهده المبذول للتخلص منها، إلا أنها استمرت بالدعاء حتى دفعته هو الآخر لإعطائها بعض المال، ولكنها كانت تلاحظ أن ضيقه منها قد بلغ حدا كبيرا، أعطته وردة وأخذت المال، وانطلقت وهي تدعو له بدعوة مغايرة: ربنا ما يطلعلكش شعر، زاد ضحكنا، وهي تغادر المكان، والتفت إلى زوج شقيقتي وهو يسأل: ما رأيك بهذا المشهد؟ قلت: إن كنت لا تعرف الفهلوة فقد مورست أمامك بوضوح قبل قليل، هذه الفتاة مثال على من علمته الحياة كيف ينتزع لقمة عيشه من فم الأسد، فقد يكون تعليمها قليلا ولكنها تعرف مفاتيح من تواجههم، وتعرف أين تضغط ومتى وكيف تضغط على كل زبون من زبائنها المتناثرين على الجسور وفي الشوارع حتى يخرج ما بمحفظته أو ما بجيبه، ولا تغضب لتعليق لا يروقها، أو لتجهم يصيب وجهه، المهم عندها أنها تجني لقمة عيشها بجهد تبذله وبورد تبيعه، ويبدو أن عالمنا العربي مليء بأمثال بائعة الورد، ممن شح تعليمهم أو زاد، ولكنهم يمارسون الفهلوة، التي نجدها في نجار أو مقاول، أو حداد أو كهربائي، كثيرون هم الذين يمارسون الفهلوة، أو بمعنى أكثر دقة يمارسون خداع الناس بطرق لا تخضع للمنطق، ولكنها تخضع لقواعد اللعب بالبيضة والحجر، ويبقى السؤال: هل ندفع لهم بدافع الشفقة على حالهم، وبعدها نبتسم مع علمنا أنهم يخدعوننا أم ندفع لهم ونوضح لهم أن ما يفعلونه مكشوف لدينا، وأننا حين نعطيهم فدافعنا مساعدتهم لا لأننا أغبياء لا نفهم حيلهم؟ هذه مسألة أنا شخصيا لا يرضيني أن يشعر من أساعده من أصحاب الفهلوة أن يصل لحد اليقين بفهلوته وأن الناس أغبياء وهو الذكي، وأن التعليم لا قيمة له أمام الفهلوة، وكلما نجح الفهلوي كلما نشر بين أقرانه احتقارا للعلم والمتعلمين، وتأكيدا لذاته ولغيره بأن الفهم والعلم والتحصيل ليس لهم قيمة أمام الفهلوة، وهذا أمر خطير جدا.
المصدر: صحيفة عكاظ
د. ميسرة طاهر
كان نهارا صيفيا حارا، والجميع متشوقا للوصول إلى نهر النيل ليلا، وقفنا على جسر قصر النيل، واستقبلتنا نسمة جميلة داعبت وجوهنا جميعا، كنا نقف صفا واحدا بجواري أحد أطفالي وعن يمينه عمته وإحدى بناتها، وعن يساري زوجها وبنتها الأخرى، والناس فوق الجسر يتحدثون ويضحكون وفي المراكب يرقصون ويغنون، شعرت وأنا مغمض العينين وكأن النسمات الجميلة أم حنونة تداعب خصلات شعر طفل هده النعاس بعد تعب يوم مضن، لم أستفق من سرحاني إلا على صوت شابة أسمعها تقول لشقيقتي: ربنا يخليلك بناتك، ربنا يعطيك سبعين مليون دولار، ضحكت شقيقتي وضحكنا معها وبناتها يتساءلن: لماذا سبعين مليون دولار؟ وبائعة الورد لا تجيب ولكنها تعيد دعواتها، ولم تلبث شقيقتي أن دفعت لها بعض المال رغبة منها في الخلاص من إلحاحها، وأخذت وردة القرنفل الحمراء وأعطتها لطفلي الصغير الذي شم رائحتها ثم قربها من أنفي لأشم رائحة زكية زاد جمالها ذلك النسيم العذب، تجاوزتني ووقفت أمام زوج شقيقتي لتدعو له هذه المرة بدعوة كانت تتناسب مع وضع الشعر في رأسه وصارت تقول: ربنا يطلعلك شعر، ربنا يطلعلك شعر، ضحكت حتى ذرفت الدموع، ومع كل جهده المبذول للتخلص منها، إلا أنها استمرت بالدعاء حتى دفعته هو الآخر لإعطائها بعض المال، ولكنها كانت تلاحظ أن ضيقه منها قد بلغ حدا كبيرا، أعطته وردة وأخذت المال، وانطلقت وهي تدعو له بدعوة مغايرة: ربنا ما يطلعلكش شعر، زاد ضحكنا، وهي تغادر المكان، والتفت إلى زوج شقيقتي وهو يسأل: ما رأيك بهذا المشهد؟ قلت: إن كنت لا تعرف الفهلوة فقد مورست أمامك بوضوح قبل قليل، هذه الفتاة مثال على من علمته الحياة كيف ينتزع لقمة عيشه من فم الأسد، فقد يكون تعليمها قليلا ولكنها تعرف مفاتيح من تواجههم، وتعرف أين تضغط ومتى وكيف تضغط على كل زبون من زبائنها المتناثرين على الجسور وفي الشوارع حتى يخرج ما بمحفظته أو ما بجيبه، ولا تغضب لتعليق لا يروقها، أو لتجهم يصيب وجهه، المهم عندها أنها تجني لقمة عيشها بجهد تبذله وبورد تبيعه، ويبدو أن عالمنا العربي مليء بأمثال بائعة الورد، ممن شح تعليمهم أو زاد، ولكنهم يمارسون الفهلوة، التي نجدها في نجار أو مقاول، أو حداد أو كهربائي، كثيرون هم الذين يمارسون الفهلوة، أو بمعنى أكثر دقة يمارسون خداع الناس بطرق لا تخضع للمنطق، ولكنها تخضع لقواعد اللعب بالبيضة والحجر، ويبقى السؤال: هل ندفع لهم بدافع الشفقة على حالهم، وبعدها نبتسم مع علمنا أنهم يخدعوننا أم ندفع لهم ونوضح لهم أن ما يفعلونه مكشوف لدينا، وأننا حين نعطيهم فدافعنا مساعدتهم لا لأننا أغبياء لا نفهم حيلهم؟ هذه مسألة أنا شخصيا لا يرضيني أن يشعر من أساعده من أصحاب الفهلوة أن يصل لحد اليقين بفهلوته وأن الناس أغبياء وهو الذكي، وأن التعليم لا قيمة له أمام الفهلوة، وكلما نجح الفهلوي كلما نشر بين أقرانه احتقارا للعلم والمتعلمين، وتأكيدا لذاته ولغيره بأن الفهم والعلم والتحصيل ليس لهم قيمة أمام الفهلوة، وهذا أمر خطير جدا.
المصدر: صحيفة عكاظ