• ×
admin

الاكتئاب مرض خطير يتطلّب دقة في علاجه

الاكتئاب مرض خطير يتطلّب دقة في علاجه
يمثّل أكثر من نصف عبء الأمراض النفسيّة مجتمعة

ريما لمع بزيع

تقيس «منظمة الصّحة العالميّة» شدّة الأمراض بما يسمّى عبء المرض، والمقصود به عدد سنوات العمل التي يفقدها الفرد بسبب المرض، وكذلك الوفاة المبكرة. وتعتبر الأمراض النفسية أكثر الأمراض المسببة لهذا العبء، إذ تبلغ حاليّاً نحو 12% من كلّ الأمراض، ما يفوق عبء السّرطان وأمراض القلب والرئة والحميات والايدز... ويتوقّع زيادة هذا العبء إلى 15% في العام 2020. ويمثل الاكتئاب الجسيم أكثر من نصف عبء الأمراض النّفسيّة كلّها. وقد ثبت حديثاً أنّ استمرار الاكتئاب بدون علاج قد يسبّب أمراض القلب والجلطات المخيّة، بل يساعد على ظهور مرض ألزهايمر. ولكن يجب ألا نخلط بين الحزن والأسى والآلام النفسيّة التي تحدث بعد فقد عزيز، وكذلك الزّعل والنّكد والهمّ والذبذبات المزاجيّة التي تحدث لكلّ فرد من جهة، وبين الاكتئاب من جهة أخرى، فلهذا الأخير أعراض وعلامات يجب أن تستمرّ لمدّة لا تقلّ عن أسبوعين.

«سيدتي» تحاور مؤسس ومدير «مركز التعاون والتدريب والأبحاث في الصحة العقلية» WHO وعضو جمعية الأمراض النفسيّة في مصر البروفسور أحمد عكاشة عن أعراض الاكتئاب وكيفيّة علاجه، في الحوار الآتي نصّه:


ما هو تعريف داء الاكتئاب النفسي؟

أفضّل أن أشير أولاً، وإثر شيوع استخدام مفردة «الاكتئاب»، إلى أنّ هذه الأخيرة لا تعني تلك المشاعر التي يشعر بها من يمر بظروف صعبة مؤقتة في أيّ من مجالات الحياة، أو من يتألم أو يعاني أو يشعر باعتلال مؤقت في المزاج، خلال جزء من يومه، ما يلبث بعده أن يستعيد تكيّفه مع من حوله.

الاكتئاب يظهر على شكل أعراض محددة ومعروفة لدى الأطباء، ويتراوح في شدّته ما بين البسيط المزمن والحاد الذي يسترق الطاقة النفسية والروحية والجسدية للإنسان بحيث لا يعود قادراً على القيام بمهامه العادية، ويمكن أن يصل الى حد إيذاء نفسه، أو محاولة الإنتحار!


ما هي أعراض الإصابة بالاكتئاب؟ وهل من علامات تشير الى احتمال الإصابة به؟

الاكتئاب مجموعة متصاحبة من الأعراض والسّمات، يعاني منها الشّخص، فيشعر بالتشاؤم والعجز والحزن واليأس، وتتجمّع مع هذه المشاعر عادة، بعض الأعراض الجسميّة المرضيّة والفسيولوجيّة كالأرق، وربّما كثرة النّوم، ونقص في الوزن أو زيادته مع فقد الرّغبة في العلاقة الزوجيّة، وربّما اضطراب في الدورة الشّهريّة عند الإناث. ويصاحب ذلك بعض الأعراض النفسيّة كفقد الطاقة والانطواء وسهولة الاستثارة وعدم القدرة على اتّخاذ القرارات المعتادة وصعوبة التركيز، وكذلك فتور العلاقات الاجتماعيّة ومواطن الاهتمامات السّابقة، وربّما وجود الأفكار الانتحاريّة. ومن أهمّ أعراض الاكتئاب، الآلام المتعدّدة في الجسم، التي تجعل هؤلاء المرضى يقومون باستشارة الأطباء الباطنيين، في ما يسمّى بـ «الاكتئاب المقنّع»، حيث إنّ سحنة الاكتئاب تختفي وراء الآلام والشكاوى الجسدية!

ما هي الأسباب التي تؤدي إلى الوصول إلى مرحلة الاكتئاب النفسي؟

تتعدّد النظريات في تفسير الاضطرابات الاكتئابيّة، وأهمّها:

* العامل الوراثيّ: تأكّد دور الوراثة عن طريق دراسة عدد من حالات الاكتئاب بين التوائم المتشابهة والمتآخيّة. ويتّفق العلماء على وجود مورّثات سائدة لها تأثير غير كامل تظهر بوضوح تحت تأثير العوامل البيئيّة.

* العوامل النفسيّة: يؤدّي الحرمان الأسريّ، أو التفاعل الأسريّ بين الوالدين والطفل دوراً في هذا المجال، ويمكن أن نضيف من خلال تعدّد النّظريّات عوامل أخرى كفقد الحبّ، أو الإحباط للدوافع اللاشعوريّة، وعدم القدرة على التوافق بين قدرات هؤلاء الأشخاص وما يطلب منهم وسنّ الأبوين وترتيب المريض بالنسبة لأخوته والتّحرّش الجنسيّ في أثناء الطفولة.

* العوامل الجسميّة: ثمّة علاقة بين الاضطرابات الوجدانيّة وأمراض الغدد الصّماء وأمراض الجهاز العصبي وعمليّات التمثيل الغذائيّ المختلفة بالجسم ونسبة المعادن في الجسم واختلال بعض الهرمونات العصبيّة بالمخّ.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه النّظريّات الكيميائيّة والفزيولوجيّة أحدثت ما يشبه الثورة في العلاج النفسيّ والدوائيّ والكهربائيّ لهذا الدّاء.

هل يمرّ المريض بمراحل معيّنة من الضّغط النفسيّ قبل الوصول إلى مرحلة الاكتئاب؟

يتعرّض مريض الاكتئاب عادة في النّوبة الأولى إلى ضغوط حياتيّة (فقد عزيز مثالاً)، أو ضغوط عامّة، ولكن تأتي النوبة التي تليها بدون التعرّض لأيّ ضغوط نفسيّة. ويعتبر النسيج الاجتماعيّ من الأصدقاء والعائلة والمجموعات الاجتماعيّة أو الثقافية أو الرياضيّة أو الدينيّة عاملاً وقائياً ضد القلق والاكتئاب.

عند الإصابة، من أين يبدأ العلاج؟ ومن هو الطبيب المخوّل (من حيث الاختصاص) بعلاج المريض؟

نظراً إلى أنّ 70% من مرضى الاكتئاب يشكون بدايةً من آلام جسميّة، يذهبون للممارس العام أو الطبيب الباطنيّ والذي يجب أن يكون تدريبه كفيلاً بالعلاج، أمّا إذا اشتد الاكتئاب ليعيق عمل المريض وعلاقاته الشخصيّة فهنا يجب أن يتوجّه إلى الطبيب النفسيّ.

ما هي العلاجات المثلى والأكثر تطوّراً، في هذا الصّدد؟

للعلاج النفسيّ والمعرفيّ، أو العلاج النفسيّ عبر الشّخصيّة فاعليّة تنسجم مع مضادات الاكتئاب (مفرحات النّفوس)، خصوصاً في الحالات البسيطة والمتوسّطة، أمّا علاج الاكتئاب الجسيم المصحوب بأعراض عقليّة أو انتحاريّة فيتمّ بمضادّات الاكتئاب ومضادّات الذّهان، وجلسات تنظيم إيقاع المخّ أحياناً.

ويمتاز الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب بنكسات المرض. لذا، يجب الاعتماد هنا على معدّلات المزاج من عقار «الليثيوم» ومضادات الصّرع الحديثة ومضادّات الذّهان الحديثة، والتي يصل التّحسّن ومنع النّكسات مع استخدامها إلى نحو 70% أو 80%. فالاكتئاب يعتبر من أكثر الأمراض الطبيّة ألماً وإعاقة لحياة الإنسان، ولكن تتوافر العلاجات المختلفة حاليّاً، والتي تؤدّي إلى تحسّن المرضى في معظم الحالات.

وكم تستغرق هذه العلاجات؟

من الصّعب تحديد الفترة التي يتطلّبها العلاج، ولكنّها تبدأ عادة من أسبوعين وحتّى أسابيع ستة، غير أنّ هناك بعض الحالات التي سجّلت شعوراً بالتحسّن بعد أشهر ثلاثة أو أربعة، فيما حالات أخرى تحصل على النتيجة عينها بعد بضع ساعات، أي أنّه ردّ فعل يختلف من شخص إلى آخر، ولكن يجب علاج النوبة الأولى لمدّة عام، حتّى وإن تمّ الشفاء بعد أسابيع، وذلك منعاً للنّكسات.

هل من الممكن أن يعود المريض إلى حالته الطبيعيّة؟

يشفى حوالي 80 % من مرضى الاكتئاب تماماً، بعد استعمال الأدوية المضادّة للاكتئاب (مفرحات النّفوس)، وهناك فئة أخرى تتعرّض لتكرّر نوبات الاكتئاب، وتحتاج إلى علاج لفترات أطول، أو إضافة أدوية أخرى، منعاً لحدوث انتكاسة في حالاتها.

هل ثمّة أنواع مختلفة من الاكتئاب؟

هناك الاكتئاب التفاعليّ أو العصابيّ، الذي يصيب الشّخصيّة غير النّاضجة انفعاليّاً، تحت تأثير أسباب موجودة في البيئة الخارجيّة، والاكتئاب العضويّ المصاحب لبعض اضطرابات الغدد الصّماء وكثير من أمراض الجهاز العصبي، والاكتئاب الناتج عن استعمال بعض الأدوية كمخفّضات ضغط الدم المرتفع. ويمكن أن يظهر الاكتئاب متخفّياً في هيئة أعراض جسميّة كالصّداع وآلام الظهر واضطرابات الهضم، ويُسمّى «الاكتئاب المقنّع»، أو «الاكتئاب المخفي». وهذا النّوع لا يصل، في غالبية الأحيان، إلى الأطباء النّفسيين، ويشكّل حضوراً ملموساً في عيادات غير المتخصّصين، بسبب هذه الشّكاوى الجسميّة المتعدّدة.

والى جانب تلك الأنواع، يظهر الاكتئاب بعد أحداث بارزة في الحياة، كفقد عزيز أو طلاق أو بعد الإحالة للتقاعد والمعاناة من الوحدة وتغيير مكان الإقامة. وقد تظهر أعراض الاكتئاب مصاحبة لأمراض نفسيّة مزمنة حتّى بعد تحسّنها.

وكذلك، هناك الاكتئاب الميلانكولي أو السوداوي، وهو نوع جسيم يتميّز بالهبوط الحركيّ، التوتر الشّديد وضلالات الفقر أو العدمية، فضلاً عن الاكتئاب العقليّ الذي يمتاز بأعراض عقليّة متفاوتة.

ما هي مخاطر الاكتئاب على المريض وعلى المجتمع ككلّ، إذا لم تتمّ معالجته بالطّرق السليمة؟

قد يؤدّي مرض الاكتئاب، إذا لم يتمّ تداركه وعلاجه مبكراً، إلى تدهور الوضع النفسيّ والاجتماعيّ للشّخص، ممّا قد يؤدّي به إلى إيذاء نفسه، أو إيذاء أحد أفراد الأسرة، أو الطلاق والتفكّك الأسريّ، علماً أنّ مرض الاكتئاب يستنزف الطاقة الروحيّة للإنسان.

ويعتبر الانتحار من أكثر أعراض الاكتئاب خطورة، إذ ينتحر حوالي 10% من مرضى الاكتئاب، وإن كانت هذه النسبة ترتفع في بعض الحالات إلى 15%. ومن المؤكّد أنّ اكتشاف هذه الحالة مبكراً يمكن أن ينقذ المريض بشكل حاسم من كلّ هذه المتاعب. ويقال إنّ حوالي 70% من كلّ حالات الانتحار الناجحة تكون بسبب حالات الاكتئاب الذي لم يتمّ اكتشافه. لكن ولحسن الحظّ، نسبة الانتحار في البلاد العربيّة تقلّ نسبتها عن عدد من بلدان العالم.

ففي بحث أجري في مصر، اتّضح أنّ نسبة الانتحار تتراوح بين 3 و4 من كلّ 100 ألف إنسان، وهذه بالطبع نسبة بسيطة، إذا قورنت بدولة كالمجر، أو روسيا، حيث ترتفع نسبة الانتحار فيها إلى 40 من كلّ 100 ألف. ويتكرّر حدوث الشيء عينه في بلدان أخرى كألمانيا والدنمارك والسويد وفرنسا والولايات المتّحدة الأمريكيّة. ويبدو أنّ عامل الترابط في الأسرة العربيّة، الى جانب الإيمان بالله، يحمي مريض الاكتئاب من اتّخاذ قرار الانتحار.

ما هو العبء والإعاقة اللذان يسبّبهما الاكتئاب؟

تقيس «منظّمة الصّحة العالميّة» شدّة الأمراض بما يسمّى عبء المرض، والمقصود به عدد سنوات العمل التي يفقدها الفرد بسبب المرض، وكذلك الوفاة المبكرة. وتعتبر الأمراض النفسيّة أكثر الأمراض المسببة لهذا العبء، إذ تبلغ حالياً نحو 12% من كلّ الأمراض، ما يفوق عبء السّرطان وأمراض القلب والرّئة والحميات والإيدز... ويتوقع زيادة هذا العبء إلى 15% في العام 2020.

ويمثل الاكتئاب الجسيم أكثر من نصف عبء الأمراض النفسية كلّها. ويشير كتاب «عبء الأمراض» الصادر عن «منظمة الصّحة العالميّة» جامعة هارفرد إلى أنّه في سنة 2020 سيكون الاكتئاب هو المرض الأوّل المسبّب لهذا العبء بين النّساء، والمرض الخامس بين الرّجال، أي سيكون الاكتئاب ثاني الأمراض المسبّبة للعبء والإعاقة، بعد أمراض القلب. وقد ثبت حديثاً أنّ استمرار الاكتئاب بدون علاج قد يسبّب أمراض القلب والجلطات المخيّة، بل يساعد على ظهور مرض ألزهايمر. فإذا حدثت جلطة في القلب، مع وجود الاكتئاب، تصل نسبة الوفاة إلى 17%، فيما تصل بدون اكتئاب إلى 3% فقط. ويُسبّب الاكتئاب ضموراً في بعض مراكز المخّ المسمّاة بـ «فصّ فرس البحر» المسؤول عن المزاج والتكيّف مع حالات الكرب والذاكرة. ويفيد العلاج في بناء الخلايا العصبيّة والشّفاء.


بالأرقام...

ثمّة حوالي 140 مليون مصاب بالاكتئاب في العالم، ويبلغ العرب من بينهم حوالي 6 ملايين في البلاد العربيّة مجتمعة، أي بنسبة تتراوح ما بين 3 و5 % من مجموع الشّعوب. وتشير الدراسات التي أجريت في لبنان بعد الحرب إلى زيادة واضحة في عدد المصابين بالاكتئاب عن باقي الدول العربيّة.

اختزال...

يجب ألا نخلط بين الحزن والأسى والآلام النفسيّة التي تحدث بعد فقد عزيز، وكذلك الزّعل والنّكد والهمّ والذبذبات المزاجيّة التي تحدث لكلّ فرد من جهة، وبين الاكتئاب من جهة أخرى. فالاكتئاب مرض له أعراضه وعلاماته التي يجب أن تستمرّ لمدّة لا تقلّ عن أسبوعين.

ويلاحظ سوء استعمال كلمة «الاكتئاب» بين النّاس، فإذا شعر الإنسان بالرّغبة في الانتحار وأنّ الحياة لا معنى لها، ثمّ تحسّنت حالته في اليوم التالي، وشعر بأنّ الأمور على ما يرام، فإنّ ذلك لا يعتبر باكتئابٍ، ولكنّها نوبات مزاجيّة، تأتي وتذهب في خلال ساعات أو أيّام بدون علاج. وهي ظاهرة منتشرة في المجتمع، تمثّل اختزال كلّ الأمراض النفسيّة والظروف الاجتماعيّة.

المصدر: مجلة سيدتي
بواسطة : admin
 0  0  7261