سيكيلوجيا التسّول.. ومواسم الاستجداء
سيكيلوجيا التسّول.. ومواسم الاستجداء
يستغلون رمضان بأساليب احترافية ويختارون أماكن إستراتيجية وبطرق منظمة
د. إبراهيم حسن الخضير
نحن الآن في شهر رمضان المبارك، وثمة بعض السلوكيات التي اعتادها المجتمع في رمضان و لعل أهمها، والتي تكثُر في رمضان هي ظاهرة التسوّل، فرمضان الكريم موسم كبير لمن يستجدون ويتسوّلون، وأصبحت الآن هناك عصابات منظمة تُدير شبكات التسول والإستجداء، بأساليب احترافية و تستغل أماكن إستراتيجية و مواقع يسهُل فيها محاصرة الناس و الإلحاح في الطلب ، مما يجعل بعض الأشخاص أحياناً يُعطون أي مبلغ بسبب مللهم من الإلحاح والاستجداء والتصاق المتسوّل بالناس وخاصةً من يبدو عليه أنه ميسور، أو أصحاب السيارات الفارهة والفخمة.
في الأيام العادية يتوزّع المتسولون على الأماكن بطريقة أقل احترافية ويكون عددهم أقل ويكون استخدام الخدع والحيل أيضاً ليس بالمستوى الذي يبتدعونه في شهر رمضان المبارك.
قبل أن يهل شهر رمضان يقوم بعض المسؤولين عن هؤلاء المتسولين بتجميع الأطفال ، وخاصةً من به عاهة أو منظره مُثير للشفقة ويستدر عطف الناس، فيكون طُعماً يصطادون به الناس. يختارون الأشخاص للتسوّل في الأماكن المناسبة لهم. يضعون أطفالاً صغاراً في أوقات الظهيرة أو امرأة تحمل طفلاً مُخدرّاً لايصيح ولا يشكو، عند إشارات مرور في آخر الليل، وعند توقّف السيارات عند الإشارات يختارون السيارات الفخمة ويتجهّون إليها.
اختيار الأماكن ليس اعتباطاً، والأشخاص الذين ينتقون وضع الأشخاص المتسولين في الأماكن التي يختارونها لهم يضعون هؤلاء المتسولين كلٌ في المكان المناسب له؛ ويقومون بتوزيع المتسولين والمتسولات، من الأطفال الصغار ومن النساء اللاتي يحملن أطفالاً وكذلك رجال كبار السن وبعضهم بهم عاهات تُثير الشفقة. الاستجداء والتسّول ليس كل شخص يستطيع أن يقوم بهذا العمل ؛ فهناك أشخاص لا يمكن له أن يستجدي و يتسوّل مهما يكن الأمر و حتى لو أضطر إلى أن يبقى بدون طعام و شراب لأيام!. لكن هناك اشخاص لديهم الاستعداد الفطري ويُغذي ذلك التدريب الذي يتلقاه بصورةٍ بدائية من قِبل أشخاص لديهم خبرة في كيفية التعامل مع الهدف الذي يُلاحقه المتسوّل أو المتسّولة.عند هؤلاء الأشخاص لا يوجد ما يُعرف بالخوف من الرفض أو التأثر من الرفض، بل على العكس لديهم تقنيات عالية للتعامل مع الرفض، و يتوقّعون دائماً الرفض، ويُحسنون التعامل معه، ويُحاولون تحويل هذا الرفض إلى العكس؛ بمعنى أن يحاولوا تحويل رفض الشخص لهم إلى التعاطف ويختارون كلماتٍ مُنتقاة و ينطقونها بنغمات مُعينة مثيرة للشفقة وتحمل المذلة مع عدم الرد على كلمات الشخص الذي يستجدونه ويعرفون النقاط التي لا يخوضون فيها مع من يسألونه؛ إنهم يتدربون كالأشخاص الذين يتدربون على المفاوضات، فيعرفون كيف يتكلمون وماهي النقاط التي تُثير ضعف السائل، خاصةً إذا كان المتسّول أو المتسّولة طفلا أو طفلة صغيرة، ترتدي أسمالاً بالية في شدة الحر أو البرد.
ليس كل شخص يستطيع أن يتسوّل لكن التدريب يجعلهم متسوّلين محترفين، فكثير من الأطفال يتم استئجارهم من والديهم من قِبل جماعات متخصصة في التسّول والاستجداء. وهناك رجال أو سيدات كبار،لا يبدو عليهم سيما الفقر والفاقة ويتسولون بطرقٍ مختلفة، ويطلبون طلبات يستغرب المرء كيف يتبين مدى صحة هؤلاء المتسولين. هؤلاء الأشخاص أيضاً لديهم خبرة وتقنية في التسّول وإخراج طلباتهم من السائلين. هناك دراساتٍ كثيرة أجُريت على المتسولين وتبيّن أنهم جماعات محترفة يتسولون بطرقٍ مختلفة، ويختارون لكل نوعٍ من التسّول الشخص المناسب له.
المتسولون ليسوا سواسية ؛ هناك متسولون يرتدون أفخر الملابس ويقودون أفخم السيارات ويستجدون أشياء خيالية؛ حدثني رجل من الأثرياء ووجهاء المجتمع بأن شخصاً جاء إلى منزله وهو يقود سيارة فخمة من أغلى السيارات و قدّم خطاباً يطلب فيه من هذا الثري مبلغاً من المال لأنه يريد أن يسافر في الصيف إليى إحد الدول العربية ويريد قيمة شراء شقة لكي يصطاف في هذه العاصمة العربية!. هذا الرجل المتسوّل لم يطلب قيمة إقامة في فندق أو إيجارا لشقة يصطاف فيها خلال الصيف هو وعائلته وإنما طلب قيمة شراء شقة لكي يصطاف، وهو أمرٌ عجيب حقاً أن يكون هناك متسولون بهذه الصفات. وكنتُ مرة عند شخص من الأثرياء والوجهاء فجاء شخص يقدّم طلباً بأنه يريد شراء أرض وهذه الأرض أربع قطع، وهو لا يملك إلا قيمة قطعتين من الاراضي ويريد مساعدة قيمة الأرضين الباقيتين!. هذه أنواع من المتسولين الذين لا يقفون عند إشارات المرور أو يطرقون الأبواب مستجدين ما يأكلون أو يصرفون منه على إبنائهم.. إنهم فئة عملها الاستجداء.
في مكتبي طلب شخص مقابلتي و عندما دخل عليّ في مكان عملي ولا أعرف كيف وصل لي!- بدأ يتحدّث عن أمراض الكلى فظننت أنه مخطئ في الاسم حيث إن هناك طبيباً في المستشفى متخصصاً في أمراض الكلى ، فأردت تصحيح معلوماته وأني لستُ طبيب كلى، فقال لي إنه يعلم ذلك تماماً ويعرف تخصصي وأنه حضر لي لطلب معونة مالية لأن ظروفه صعبة وأخرج لي أوراقاً تؤكد ما يقوله. و نزل من مكتبي ليمر بمكاتب أطباء آخرين ويُعيد نفس القصة. وهذه طريقة استجداء جديدة ما كانت تحدث منذ فترة ولكن الآن تفاجأ في مقر عملك ومكتبك بشخص يقتحم المكتب ويطلب مساعدة ويُعرض عليك أوراقاً بحجم الديون المتراكمة عليه، وليس بعيداً أن تجده يُقيم في فيلا فخمة ويقود سيارة فارهة، ولكنها سيكلوجيا الاستجداء والتسّول التي تجعل الشخص يُريق ماء وجهه، وكما ذكرت سابقاً فإن الاستجداء والتسّول قد يُصبح مهنة، ولا يرى الشخص الذي يتسّول ويستجدي الأخرى في الاستجداء والتسّول أية مشاعر سلبية، بل يعتبر بأن هذه السلوكيات ذكاء وشطارة، بينما هي في حقيقة الأمر خصلة رذيلة لمن يطلب الناس وهو غير محتاج.
ولقد سمعتُ يوماً رجلاً في الإذاعة يشكو تراكم الديون عليه لأحد المشايخ وعجره عن تسديد هذه الديون وهل يجوز له الطلب من الآخرين مساعدته، فما كان من الشيخ إلا أن طلب منه أن يُسدد ديونه وألا يتخّذ من التسوّل مهنة، وقال له " لا تفتح على نفسك باب السؤال فيفتح الله عليك باب الفقر!"، وأعتقد بأن هذه الجملة والتي سمعتها قبل سنوات عدة، كلمة بليغة جداً في موضوع الاستجداء وسؤال الناس والتذّلل عندهم.
المشكلة أن هناك أشخاصاً يمتهنون هذه المهنة وهم مُقتدرون بشكلٍ جيد. أعرف رجلاً كان يعمل في وظيفة حكومية دخلها جيداً، ولكنها تركها بعد أن أمتهن الاستجداء والتسوّل بطريقة حديثة وبتعالٍ، أصبح يدور بين علية القوم طالباً مساعدات ويتملّق هذا وذاك ويُقدّم خدمات لمن يوصلونه لأصحاب الجاه والثراء. يُقبّل أيدي الأشخاص المقربين والذين يساعدونه في تسوّله واستجدائه. كان يتحدّث معي عن الغنائم التي ينالها من أصحاب الجاه والمال ويتحدّث عن ذكائه في الوصول إلى التجاّر والوجهاء والأثرياء وأصحاب السلطة وكيف حصل منهم على مبالغ نقدية وهدايا عينية عبارة عن سيارات أو أشياء أخرى ثمينة. لقد اعترف بأن ممارسة مهنة الاستجداء والتسّول تعود عليه بأكثر مما كان يقبضه من عمله في الوظيفة الحكومية ، وهو فعلاً صادق في ما يقول،واستطاع بناء منزل ويركب سيارة فخمة غير سياراتٍ أخرى حصل عليها من الاستجداء باع بعضها وبعضها مع أبنائه أو بعض أقاربه الذين يجود عليهم بما يجود عليه الأكرمون. هذه القصة ليست خيالا ولا فبركة ولكنها قصة حقيقية لرجل أعرفه تمام المعرفة ويُحدثني عن طرق التسوّل والاستجداء، بل إنه طلب مني أن يطلب باسمي بعض الأعُطيات من بعض الناس، و راح يُزيّن ليّ كيف أن الجميع يستجدي ويتسوّل ليحصل على مبالغ أو أراضٍ أو هدايا عينية!. هكذا أصبح التسوّل والاستجداء مهنة رسمية، وليس فقط هذا الشخص هو من يمتهن الاستجداء والتسّول وهو شخص محترم، بل هناك الكثيرون أمثاله يستجدون ويتسولّون بنفس الطريقة. تشاهدهم أشخاصا يرتدون أفخر الملابس ويقودون أفخم السيارات ومهنتهم الحقيقية هو التسوّل والاستجداء من الناس بطرقٍ مختلفة.
المشكلة أن يتقبّل المجتمع التسّول بالطرق الرفيعة التي تكاد تخلُق ثقافة تُبيح وتُشجّع على الاستجداء والتسوّل بطرقٍ مختلفة ولكن جميعها تصب في تشجيع طبقة طفيلية تعيش على التسوّل والاستجداء بمستويات مختلفة؛ بدءاً من الأطفال الصغار، ذكوراً وإناثاً الذين يقفون عند إشارات المرور أو يستجدون في الأسواق والمحلات العامة، مروراً بالأشخاص العاديين الذين يمرون عليك في مكتبك ويطلبون معونات وانتهاءً بالأشخاص الذين يستجدون بطرقٍ غير مألوفة، وهم يعيشون عيشة مرفّهةً، حتى أن شخصا يترك وظيفة حكومية ويتفرّغ للاستجداء والتسوّل من الوجهاء والأثرياء ويُحقق دخلاً أعلى بكثير من وظيفته الحكومية.
إننا لا نُريد أن نؤسس لثقافة خاصة بنا، هي ثقافة التسوّل والاستجداء ونجعلها تستشري في المجتمع بأن نُشجّع هؤلاء على الاستمرار بأن نُعطيهم لأنهم مُلحّون في الاستجداء ويستخدمون الصغار النساء المسنات، يجب أن نتوخى الحذر عندما ننفق في سبيل الله سواء أكان ذلك صدقة أو كان ذلك زكاة والتي يقوم كثير من الناس بالتصّدق وإخراج الزكاة في شهر رمضان ، لذلك يُكثر المتسولون خلال هذا الشهر الفضيل، فيجب عدم مساعدة الأدعياء وتوخي الحذر والتصّدق خاصة للأقربين أو إعطائها لأشخاص تعرفهم جيداً. إننا لسنا ضد التصّدق ولكن يجب عدم تشجيع ثقافة التسّول غير الملائمة والتي لا تتفق مع ديننا الحنيف ووضعت الزكاة والصدقة لأغراض أخرى غير إعطاء متسولي إشارات المرور أو بقية الأنواع التي تحدّثنا عنهم.
المصدر: صحيفة الرياض
يستغلون رمضان بأساليب احترافية ويختارون أماكن إستراتيجية وبطرق منظمة
د. إبراهيم حسن الخضير
نحن الآن في شهر رمضان المبارك، وثمة بعض السلوكيات التي اعتادها المجتمع في رمضان و لعل أهمها، والتي تكثُر في رمضان هي ظاهرة التسوّل، فرمضان الكريم موسم كبير لمن يستجدون ويتسوّلون، وأصبحت الآن هناك عصابات منظمة تُدير شبكات التسول والإستجداء، بأساليب احترافية و تستغل أماكن إستراتيجية و مواقع يسهُل فيها محاصرة الناس و الإلحاح في الطلب ، مما يجعل بعض الأشخاص أحياناً يُعطون أي مبلغ بسبب مللهم من الإلحاح والاستجداء والتصاق المتسوّل بالناس وخاصةً من يبدو عليه أنه ميسور، أو أصحاب السيارات الفارهة والفخمة.
في الأيام العادية يتوزّع المتسولون على الأماكن بطريقة أقل احترافية ويكون عددهم أقل ويكون استخدام الخدع والحيل أيضاً ليس بالمستوى الذي يبتدعونه في شهر رمضان المبارك.
قبل أن يهل شهر رمضان يقوم بعض المسؤولين عن هؤلاء المتسولين بتجميع الأطفال ، وخاصةً من به عاهة أو منظره مُثير للشفقة ويستدر عطف الناس، فيكون طُعماً يصطادون به الناس. يختارون الأشخاص للتسوّل في الأماكن المناسبة لهم. يضعون أطفالاً صغاراً في أوقات الظهيرة أو امرأة تحمل طفلاً مُخدرّاً لايصيح ولا يشكو، عند إشارات مرور في آخر الليل، وعند توقّف السيارات عند الإشارات يختارون السيارات الفخمة ويتجهّون إليها.
اختيار الأماكن ليس اعتباطاً، والأشخاص الذين ينتقون وضع الأشخاص المتسولين في الأماكن التي يختارونها لهم يضعون هؤلاء المتسولين كلٌ في المكان المناسب له؛ ويقومون بتوزيع المتسولين والمتسولات، من الأطفال الصغار ومن النساء اللاتي يحملن أطفالاً وكذلك رجال كبار السن وبعضهم بهم عاهات تُثير الشفقة. الاستجداء والتسّول ليس كل شخص يستطيع أن يقوم بهذا العمل ؛ فهناك أشخاص لا يمكن له أن يستجدي و يتسوّل مهما يكن الأمر و حتى لو أضطر إلى أن يبقى بدون طعام و شراب لأيام!. لكن هناك اشخاص لديهم الاستعداد الفطري ويُغذي ذلك التدريب الذي يتلقاه بصورةٍ بدائية من قِبل أشخاص لديهم خبرة في كيفية التعامل مع الهدف الذي يُلاحقه المتسوّل أو المتسّولة.عند هؤلاء الأشخاص لا يوجد ما يُعرف بالخوف من الرفض أو التأثر من الرفض، بل على العكس لديهم تقنيات عالية للتعامل مع الرفض، و يتوقّعون دائماً الرفض، ويُحسنون التعامل معه، ويُحاولون تحويل هذا الرفض إلى العكس؛ بمعنى أن يحاولوا تحويل رفض الشخص لهم إلى التعاطف ويختارون كلماتٍ مُنتقاة و ينطقونها بنغمات مُعينة مثيرة للشفقة وتحمل المذلة مع عدم الرد على كلمات الشخص الذي يستجدونه ويعرفون النقاط التي لا يخوضون فيها مع من يسألونه؛ إنهم يتدربون كالأشخاص الذين يتدربون على المفاوضات، فيعرفون كيف يتكلمون وماهي النقاط التي تُثير ضعف السائل، خاصةً إذا كان المتسّول أو المتسّولة طفلا أو طفلة صغيرة، ترتدي أسمالاً بالية في شدة الحر أو البرد.
ليس كل شخص يستطيع أن يتسوّل لكن التدريب يجعلهم متسوّلين محترفين، فكثير من الأطفال يتم استئجارهم من والديهم من قِبل جماعات متخصصة في التسّول والاستجداء. وهناك رجال أو سيدات كبار،لا يبدو عليهم سيما الفقر والفاقة ويتسولون بطرقٍ مختلفة، ويطلبون طلبات يستغرب المرء كيف يتبين مدى صحة هؤلاء المتسولين. هؤلاء الأشخاص أيضاً لديهم خبرة وتقنية في التسّول وإخراج طلباتهم من السائلين. هناك دراساتٍ كثيرة أجُريت على المتسولين وتبيّن أنهم جماعات محترفة يتسولون بطرقٍ مختلفة، ويختارون لكل نوعٍ من التسّول الشخص المناسب له.
المتسولون ليسوا سواسية ؛ هناك متسولون يرتدون أفخر الملابس ويقودون أفخم السيارات ويستجدون أشياء خيالية؛ حدثني رجل من الأثرياء ووجهاء المجتمع بأن شخصاً جاء إلى منزله وهو يقود سيارة فخمة من أغلى السيارات و قدّم خطاباً يطلب فيه من هذا الثري مبلغاً من المال لأنه يريد أن يسافر في الصيف إليى إحد الدول العربية ويريد قيمة شراء شقة لكي يصطاف في هذه العاصمة العربية!. هذا الرجل المتسوّل لم يطلب قيمة إقامة في فندق أو إيجارا لشقة يصطاف فيها خلال الصيف هو وعائلته وإنما طلب قيمة شراء شقة لكي يصطاف، وهو أمرٌ عجيب حقاً أن يكون هناك متسولون بهذه الصفات. وكنتُ مرة عند شخص من الأثرياء والوجهاء فجاء شخص يقدّم طلباً بأنه يريد شراء أرض وهذه الأرض أربع قطع، وهو لا يملك إلا قيمة قطعتين من الاراضي ويريد مساعدة قيمة الأرضين الباقيتين!. هذه أنواع من المتسولين الذين لا يقفون عند إشارات المرور أو يطرقون الأبواب مستجدين ما يأكلون أو يصرفون منه على إبنائهم.. إنهم فئة عملها الاستجداء.
في مكتبي طلب شخص مقابلتي و عندما دخل عليّ في مكان عملي ولا أعرف كيف وصل لي!- بدأ يتحدّث عن أمراض الكلى فظننت أنه مخطئ في الاسم حيث إن هناك طبيباً في المستشفى متخصصاً في أمراض الكلى ، فأردت تصحيح معلوماته وأني لستُ طبيب كلى، فقال لي إنه يعلم ذلك تماماً ويعرف تخصصي وأنه حضر لي لطلب معونة مالية لأن ظروفه صعبة وأخرج لي أوراقاً تؤكد ما يقوله. و نزل من مكتبي ليمر بمكاتب أطباء آخرين ويُعيد نفس القصة. وهذه طريقة استجداء جديدة ما كانت تحدث منذ فترة ولكن الآن تفاجأ في مقر عملك ومكتبك بشخص يقتحم المكتب ويطلب مساعدة ويُعرض عليك أوراقاً بحجم الديون المتراكمة عليه، وليس بعيداً أن تجده يُقيم في فيلا فخمة ويقود سيارة فارهة، ولكنها سيكلوجيا الاستجداء والتسّول التي تجعل الشخص يُريق ماء وجهه، وكما ذكرت سابقاً فإن الاستجداء والتسّول قد يُصبح مهنة، ولا يرى الشخص الذي يتسّول ويستجدي الأخرى في الاستجداء والتسّول أية مشاعر سلبية، بل يعتبر بأن هذه السلوكيات ذكاء وشطارة، بينما هي في حقيقة الأمر خصلة رذيلة لمن يطلب الناس وهو غير محتاج.
ولقد سمعتُ يوماً رجلاً في الإذاعة يشكو تراكم الديون عليه لأحد المشايخ وعجره عن تسديد هذه الديون وهل يجوز له الطلب من الآخرين مساعدته، فما كان من الشيخ إلا أن طلب منه أن يُسدد ديونه وألا يتخّذ من التسوّل مهنة، وقال له " لا تفتح على نفسك باب السؤال فيفتح الله عليك باب الفقر!"، وأعتقد بأن هذه الجملة والتي سمعتها قبل سنوات عدة، كلمة بليغة جداً في موضوع الاستجداء وسؤال الناس والتذّلل عندهم.
المشكلة أن هناك أشخاصاً يمتهنون هذه المهنة وهم مُقتدرون بشكلٍ جيد. أعرف رجلاً كان يعمل في وظيفة حكومية دخلها جيداً، ولكنها تركها بعد أن أمتهن الاستجداء والتسوّل بطريقة حديثة وبتعالٍ، أصبح يدور بين علية القوم طالباً مساعدات ويتملّق هذا وذاك ويُقدّم خدمات لمن يوصلونه لأصحاب الجاه والثراء. يُقبّل أيدي الأشخاص المقربين والذين يساعدونه في تسوّله واستجدائه. كان يتحدّث معي عن الغنائم التي ينالها من أصحاب الجاه والمال ويتحدّث عن ذكائه في الوصول إلى التجاّر والوجهاء والأثرياء وأصحاب السلطة وكيف حصل منهم على مبالغ نقدية وهدايا عينية عبارة عن سيارات أو أشياء أخرى ثمينة. لقد اعترف بأن ممارسة مهنة الاستجداء والتسّول تعود عليه بأكثر مما كان يقبضه من عمله في الوظيفة الحكومية ، وهو فعلاً صادق في ما يقول،واستطاع بناء منزل ويركب سيارة فخمة غير سياراتٍ أخرى حصل عليها من الاستجداء باع بعضها وبعضها مع أبنائه أو بعض أقاربه الذين يجود عليهم بما يجود عليه الأكرمون. هذه القصة ليست خيالا ولا فبركة ولكنها قصة حقيقية لرجل أعرفه تمام المعرفة ويُحدثني عن طرق التسوّل والاستجداء، بل إنه طلب مني أن يطلب باسمي بعض الأعُطيات من بعض الناس، و راح يُزيّن ليّ كيف أن الجميع يستجدي ويتسوّل ليحصل على مبالغ أو أراضٍ أو هدايا عينية!. هكذا أصبح التسوّل والاستجداء مهنة رسمية، وليس فقط هذا الشخص هو من يمتهن الاستجداء والتسّول وهو شخص محترم، بل هناك الكثيرون أمثاله يستجدون ويتسولّون بنفس الطريقة. تشاهدهم أشخاصا يرتدون أفخر الملابس ويقودون أفخم السيارات ومهنتهم الحقيقية هو التسوّل والاستجداء من الناس بطرقٍ مختلفة.
المشكلة أن يتقبّل المجتمع التسّول بالطرق الرفيعة التي تكاد تخلُق ثقافة تُبيح وتُشجّع على الاستجداء والتسوّل بطرقٍ مختلفة ولكن جميعها تصب في تشجيع طبقة طفيلية تعيش على التسوّل والاستجداء بمستويات مختلفة؛ بدءاً من الأطفال الصغار، ذكوراً وإناثاً الذين يقفون عند إشارات المرور أو يستجدون في الأسواق والمحلات العامة، مروراً بالأشخاص العاديين الذين يمرون عليك في مكتبك ويطلبون معونات وانتهاءً بالأشخاص الذين يستجدون بطرقٍ غير مألوفة، وهم يعيشون عيشة مرفّهةً، حتى أن شخصا يترك وظيفة حكومية ويتفرّغ للاستجداء والتسوّل من الوجهاء والأثرياء ويُحقق دخلاً أعلى بكثير من وظيفته الحكومية.
إننا لا نُريد أن نؤسس لثقافة خاصة بنا، هي ثقافة التسوّل والاستجداء ونجعلها تستشري في المجتمع بأن نُشجّع هؤلاء على الاستمرار بأن نُعطيهم لأنهم مُلحّون في الاستجداء ويستخدمون الصغار النساء المسنات، يجب أن نتوخى الحذر عندما ننفق في سبيل الله سواء أكان ذلك صدقة أو كان ذلك زكاة والتي يقوم كثير من الناس بالتصّدق وإخراج الزكاة في شهر رمضان ، لذلك يُكثر المتسولون خلال هذا الشهر الفضيل، فيجب عدم مساعدة الأدعياء وتوخي الحذر والتصّدق خاصة للأقربين أو إعطائها لأشخاص تعرفهم جيداً. إننا لسنا ضد التصّدق ولكن يجب عدم تشجيع ثقافة التسّول غير الملائمة والتي لا تتفق مع ديننا الحنيف ووضعت الزكاة والصدقة لأغراض أخرى غير إعطاء متسولي إشارات المرور أو بقية الأنواع التي تحدّثنا عنهم.
المصدر: صحيفة الرياض