من يملك «خارطة طريق» جسدي وجسدك؟
من يملك «خارطة طريق» جسدي وجسدك؟
فهد عامر الأحمدي
لن أدعك تنتظر الجواب طويلا: فالخارطة الوراثية للأجساد البشرية ملك الآن لمؤسسات بحثية أمريكية.. فمع تبلور الهندسة الوراثية اهتم العلماء برسم خرائط المورثات وتعديل النباتات وتهجين الحيوانات وابتكار عقاقير وراثية بالكامل.. وفي البداية اعتبرت هذه المحاولات من قبيل إبداع قصيدة أدبية أو اكتشاف معادلة رياضية ولم يهتم أحد بالحصول على حقوق تملك لها. إلا أن الصناعات الضخمة التي تولدت عنها والأسواق الواعدة للمنتجات الوراثية جعلا من الضروري وضع تشريعات تحفظها كملكية فكرية خاصة لمطوريها.. وكان فأر هارفارد (الذي حقن في الثمانينيات بجينات معدلة لمكافحة السرطان) أول حيوان تجارب يعتمد كملكية فكرية من هذا النوع.. وحاليا تحمي الولايات المتحدة منتجات وراثية وفكرية بحتة مثل الرلاكسن والنترفرن و"أول خريطة وراثية للانسان" وبالتالي رغم ان الخريطة تنطبق على جميع البشر الا ان ملكيتها تعود للأمريكان وحدهم!!
وما يحدث في حقل الهندسة الوراثية - والمنتجات المعرفية الموازية - لا يختلف كثيرا عن حالات التنافس التي كانت سائدة قديما (بين الأمم الفاهمة).. فكم قضية اشتعلت في الماضي بين أوروبا وأمريكا واليابان على أسبقية هذا الاختراع او ذلك الاكتشاف.. ففرنسا مثلا تدعي ان البنسلين اخترعه طالب طب فرنسي قبل فليمنج الانجليزي بسبعة أعوام. والأمريكان يقولون انهم اكتشفوا فيروس الايدز قبل معهد باستير في باريس بثلاثة أيام. والروس يدعون ان سبينياسكي سبق ماركوني الايطالي باختراع الإرسال اللاسلكي. ويقول الألمان ان التلفون والمصباح الكهربائي أنجزا في ألمانيا قبل بل وإديسون في امريكا.. وفي حين يدعي الأمريكان ان الترانزستور اختراع أمريكي يقول اليابانيون ان سوني أحيت الفكرة بعد ان وصل الأمريكان الى طريق مسدود.. وقس على هذا كثير!
والقضية هنا لا تتعلق فقط بالمكسب المعنوي أو الاعتزاز الوطني، بل وأيضا بتشكيل احتكارات تجارية وصناعية تدر الملايين.. ورغم أن الاحتكار يكون واضحا ومفهوما بالنسبة للاختراعات المادية (كحقوق الملكية في محرك او شريحة الكترونية جديدة) إلا أنه يصبح ضبابيا ومشوشا حين يتعلق الأمر بالاكتشافات ذات الطبيعة الفكرية البحتة كالمعادلات الرياضية والتراكيب الكيميائية والطفرات الوراثية/ ومع هذا نجحت امريكا في استصدار تشريعات عالمية تحفظ حقوقها في هذه المجالات!!
وبطبيعة الحال؛ المظلوم هنا هي شعوب العالم الثالث التي لا تدرك أهمية توثيق منتجاتها المعرفية.. فمن المعروف مثلا أن دول العالم الثالث تتفوق على الدول الصناعية في تنوعها الطبيعي وثرائها البيئي. وهذه الثروة كان يمكن ترجمتها الى صناعات طبية وغذائية وكيميائية هائلة لو امتلكت الدول الفقيرة المال والتكنولوجيا المناسبين.. وفي المقابل أدركت الدول الغنية خطورة فقرها البيئي فعمدت منذ زمن بعيد الى سرقة وتطوير الأصول النباتية والحيوانية للعالم الثالث وإعادة تصديرها كمنتجات جديدة او محسنة (كفسائل النخيل المطورة التي أصبحت ملكا لبريطانيا)!!
وحين نتأمل ما حدث على مستوى العالم نكتشف أن هناك أصولا وراثية كثيرة كانت ملكا للدول الفقيرة وأصبحت اليوم ملكا للدول الغنية بعد تحسينها؛ فهناك مثلا نبتة الزيت البحري التي تعيش في تشيلي وتسقى بماء البحر وأصبحت الآن ملكا لإحدى الشركات في كاليفورنيا.. وهناك نبتة الأوكا الإفريقية التي تنتج درنات مغذية (تشبه البطاطس) ولا تحتاج لكميات كبيرة من المياه.. وهناك ايضا شجرة النيم الهندية التي استغلت في سويسرا وفرنسا لانتاج مجموعة واسعة من المستحضرات الطبية.. وكذلك بذور الشيا التي يستخرج منها مادة فعالة لخفض السكر والحد من الكولسترول.. حتى القردة الكينية المعروفة باسم "القطط الخضراء" أصبحت (ملكا فكريا) لأمريكا بعد ان حورتها لإفراز هرمون مضاد للايدز!!
وكل هذا يثبت أن للجهل ثمنا باهظا.. وأن للمعرفة عائدات تفوق النفط ومناجم الذهب.
الرياض
فهد عامر الأحمدي
لن أدعك تنتظر الجواب طويلا: فالخارطة الوراثية للأجساد البشرية ملك الآن لمؤسسات بحثية أمريكية.. فمع تبلور الهندسة الوراثية اهتم العلماء برسم خرائط المورثات وتعديل النباتات وتهجين الحيوانات وابتكار عقاقير وراثية بالكامل.. وفي البداية اعتبرت هذه المحاولات من قبيل إبداع قصيدة أدبية أو اكتشاف معادلة رياضية ولم يهتم أحد بالحصول على حقوق تملك لها. إلا أن الصناعات الضخمة التي تولدت عنها والأسواق الواعدة للمنتجات الوراثية جعلا من الضروري وضع تشريعات تحفظها كملكية فكرية خاصة لمطوريها.. وكان فأر هارفارد (الذي حقن في الثمانينيات بجينات معدلة لمكافحة السرطان) أول حيوان تجارب يعتمد كملكية فكرية من هذا النوع.. وحاليا تحمي الولايات المتحدة منتجات وراثية وفكرية بحتة مثل الرلاكسن والنترفرن و"أول خريطة وراثية للانسان" وبالتالي رغم ان الخريطة تنطبق على جميع البشر الا ان ملكيتها تعود للأمريكان وحدهم!!
وما يحدث في حقل الهندسة الوراثية - والمنتجات المعرفية الموازية - لا يختلف كثيرا عن حالات التنافس التي كانت سائدة قديما (بين الأمم الفاهمة).. فكم قضية اشتعلت في الماضي بين أوروبا وأمريكا واليابان على أسبقية هذا الاختراع او ذلك الاكتشاف.. ففرنسا مثلا تدعي ان البنسلين اخترعه طالب طب فرنسي قبل فليمنج الانجليزي بسبعة أعوام. والأمريكان يقولون انهم اكتشفوا فيروس الايدز قبل معهد باستير في باريس بثلاثة أيام. والروس يدعون ان سبينياسكي سبق ماركوني الايطالي باختراع الإرسال اللاسلكي. ويقول الألمان ان التلفون والمصباح الكهربائي أنجزا في ألمانيا قبل بل وإديسون في امريكا.. وفي حين يدعي الأمريكان ان الترانزستور اختراع أمريكي يقول اليابانيون ان سوني أحيت الفكرة بعد ان وصل الأمريكان الى طريق مسدود.. وقس على هذا كثير!
والقضية هنا لا تتعلق فقط بالمكسب المعنوي أو الاعتزاز الوطني، بل وأيضا بتشكيل احتكارات تجارية وصناعية تدر الملايين.. ورغم أن الاحتكار يكون واضحا ومفهوما بالنسبة للاختراعات المادية (كحقوق الملكية في محرك او شريحة الكترونية جديدة) إلا أنه يصبح ضبابيا ومشوشا حين يتعلق الأمر بالاكتشافات ذات الطبيعة الفكرية البحتة كالمعادلات الرياضية والتراكيب الكيميائية والطفرات الوراثية/ ومع هذا نجحت امريكا في استصدار تشريعات عالمية تحفظ حقوقها في هذه المجالات!!
وبطبيعة الحال؛ المظلوم هنا هي شعوب العالم الثالث التي لا تدرك أهمية توثيق منتجاتها المعرفية.. فمن المعروف مثلا أن دول العالم الثالث تتفوق على الدول الصناعية في تنوعها الطبيعي وثرائها البيئي. وهذه الثروة كان يمكن ترجمتها الى صناعات طبية وغذائية وكيميائية هائلة لو امتلكت الدول الفقيرة المال والتكنولوجيا المناسبين.. وفي المقابل أدركت الدول الغنية خطورة فقرها البيئي فعمدت منذ زمن بعيد الى سرقة وتطوير الأصول النباتية والحيوانية للعالم الثالث وإعادة تصديرها كمنتجات جديدة او محسنة (كفسائل النخيل المطورة التي أصبحت ملكا لبريطانيا)!!
وحين نتأمل ما حدث على مستوى العالم نكتشف أن هناك أصولا وراثية كثيرة كانت ملكا للدول الفقيرة وأصبحت اليوم ملكا للدول الغنية بعد تحسينها؛ فهناك مثلا نبتة الزيت البحري التي تعيش في تشيلي وتسقى بماء البحر وأصبحت الآن ملكا لإحدى الشركات في كاليفورنيا.. وهناك نبتة الأوكا الإفريقية التي تنتج درنات مغذية (تشبه البطاطس) ولا تحتاج لكميات كبيرة من المياه.. وهناك ايضا شجرة النيم الهندية التي استغلت في سويسرا وفرنسا لانتاج مجموعة واسعة من المستحضرات الطبية.. وكذلك بذور الشيا التي يستخرج منها مادة فعالة لخفض السكر والحد من الكولسترول.. حتى القردة الكينية المعروفة باسم "القطط الخضراء" أصبحت (ملكا فكريا) لأمريكا بعد ان حورتها لإفراز هرمون مضاد للايدز!!
وكل هذا يثبت أن للجهل ثمنا باهظا.. وأن للمعرفة عائدات تفوق النفط ومناجم الذهب.
الرياض