التاريخ الأخرس
التاريخ الأخرس
فهد عامر الأحمدي
التاريخ أخرس أعمى لا يملك صوتاً ولا حنجرة ولا ملامح.. فجميعنا يعرف هارون الرشيد، وجنكيز خان، وطارق بن زياد، وعشرات القادة والعظماء ولكننا لا نعرف نبرة أصواتهم ولا ملامح وجوههم ويتخيلهم كل إنسان منا بشكل مختلف..
فقدنا إلى الأبد فرصة الاستماع إلى أصوات عظماء ماتوا قبل اختراع أديسون للفونوغراف (مسجل الصوت) أو رؤية ملامحهم الحقيقية قبل اختراع لويس داجير للتصوير الفوتوغرافي!!
لهذا السبب تمتلئ متاحف العالم بالحجارة والأحافير (كونها أجساماً مادية تعمر لقرون) في حين لا يوجد متحف للصور والأصوات التي انقرضت قبل توثيقها بالتقنيات الجديدة...
وفي حين يحاول البعض رسم شخصيات التاريخ يدوياً (وشاهدت في تركيا متحفاً يضم صور الأنبياء الوارد ذكرهم في القرآن) يبدو أننا فقدنا إلى الأبد فرصة سماع خطباء أو مطربين اشتهروا عبر التاريخ دون سماع أصواتهم كزرياب والموصلي وسلامه ومخارق بن يحيى..
المفارقة أن أم كلثوم (المطربة العربية المعروفة) عاشت بين زمنين؛ الأول لم يُعرف فيه التسجيل فضاعت لها أغانٍ وتواشيح لا يعرفها أحد (ناهيك عن شقيقها الشيخ خالد الذي كانت ترافقه في طفولتها لإلقاء التواشيح الدينية).. والثاني في عقد العشرينات حين بدأت تسجل أغانيها على اسطوانات بدائية قبل أن يبدأ عصر التلفزيون وتحيي حفلات شهرية مصورة منذ عقد الأربعينات..
ونفس المفارقة نلاحظها في التراثي المسموع لكافة الشعوب حيث توجد أصوات مجهولة رغم شهرة أصحابها، وأصوات مخضرمة توزعت بين الحفظ والضياع!!
... وكان خبراء الأفلام قد وقعوا في ورطة كبيرة حين بدأوا بإنتاج فيلم الحديقة الديناصورية في عقد التسعينات.. فهذا الفيلم يتمحور حول إعادة استيلاد الديناصورات المنقرضة من خلال تقنية الاستنساخ الوراثي.. وفي حين تكفلت المؤثرات الخاصة بتقديم صور مدهشة للديناصورات، لم يعرف أحد فعلاً كيف كانت أصواتها في الماضي (خصوصاً في ظل وجود أكثر من 32 نوعاً مختلفاً تظهر في الفيلم).. ولحل هذه المشكلة استعان المنتجون بخبراء تشريح لتخمين طبيعية الأصوات التي تخرج من حناجر ديناصورات متحجرة (ظهرت إحداها في الفيلم نفسه ينفخ فيها الدكتور إيان مالكولم للفت انتباه أحد الديناصورات)!!
... وكي لا تضيع علينا اليوم أصوات ألفناها؛ بدأنا نسمع بمتاحف الأصوات التي بدأت تنشر على الإنترنت.. وكان مبرمج الكمبيوتر جان ديكرسن أول من أنشأ متحفاً من هذا النوع حين افتقد صوت لعبة كان يمارسها في طفولته (تدعى سوبر ماريو) فقرر العثور عليها وتسجيلها كملف رقمي.. وشيئاً فشيئاً تطور المشروع وأصبح موقعه يتضمن أكثر من 120 صوتاً يحن لها الآباء والأجداد ولا يعرفها الأبناء والأحفاد.. ومن النماذج الموجودة في موقع ديكرسن صوت "الموديوم" القديم حين يتصل بالإنترنت، وقرص الهاتف اليدوي حين يعود إلى الخلف، وصوت الطابعة اليدوية حين تعود لبداية السطر.. ناهيك عن أصوات القطارات البخارية وأبواق السيارات القديمة !!
.. بقي أن أشير إلى قصة حقيقية حدثت لي وسبق أن استعرضتها في مقال قديم لها علاقة بموضوع اليوم:
فحين أُطلقت المركبة الفضائية بايونير عام1972 كانت تحمل خريطة معدنية نقش عليها موقع الأرض مع رسم لرجل وامرأة وتسجيل لآلاف الأصوات الموجودة على كوكب الأرض (كنوع من التواصل مع المخلوقات الفضائية في حال صادفوها ذات يوم)!!
.. وحين زرت متحف الفضاء في كاليفورنيا عام1996 رأيت أنموذجاً للمركبة والخريطة وكانت دهشتي عظيمه حين اكتشفت أن من بين الأصوات المسجلة عليها صوت عبدالباسط عبدالصمد يقرأ قوله تعالى:
(يامعشر الجن والإنس إن استطعتم إن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان).
... وشاهد الخريطة بنفسك بإدخال Pioneer plaque في صور جوجل!!
الرياض
فهد عامر الأحمدي
التاريخ أخرس أعمى لا يملك صوتاً ولا حنجرة ولا ملامح.. فجميعنا يعرف هارون الرشيد، وجنكيز خان، وطارق بن زياد، وعشرات القادة والعظماء ولكننا لا نعرف نبرة أصواتهم ولا ملامح وجوههم ويتخيلهم كل إنسان منا بشكل مختلف..
فقدنا إلى الأبد فرصة الاستماع إلى أصوات عظماء ماتوا قبل اختراع أديسون للفونوغراف (مسجل الصوت) أو رؤية ملامحهم الحقيقية قبل اختراع لويس داجير للتصوير الفوتوغرافي!!
لهذا السبب تمتلئ متاحف العالم بالحجارة والأحافير (كونها أجساماً مادية تعمر لقرون) في حين لا يوجد متحف للصور والأصوات التي انقرضت قبل توثيقها بالتقنيات الجديدة...
وفي حين يحاول البعض رسم شخصيات التاريخ يدوياً (وشاهدت في تركيا متحفاً يضم صور الأنبياء الوارد ذكرهم في القرآن) يبدو أننا فقدنا إلى الأبد فرصة سماع خطباء أو مطربين اشتهروا عبر التاريخ دون سماع أصواتهم كزرياب والموصلي وسلامه ومخارق بن يحيى..
المفارقة أن أم كلثوم (المطربة العربية المعروفة) عاشت بين زمنين؛ الأول لم يُعرف فيه التسجيل فضاعت لها أغانٍ وتواشيح لا يعرفها أحد (ناهيك عن شقيقها الشيخ خالد الذي كانت ترافقه في طفولتها لإلقاء التواشيح الدينية).. والثاني في عقد العشرينات حين بدأت تسجل أغانيها على اسطوانات بدائية قبل أن يبدأ عصر التلفزيون وتحيي حفلات شهرية مصورة منذ عقد الأربعينات..
ونفس المفارقة نلاحظها في التراثي المسموع لكافة الشعوب حيث توجد أصوات مجهولة رغم شهرة أصحابها، وأصوات مخضرمة توزعت بين الحفظ والضياع!!
... وكان خبراء الأفلام قد وقعوا في ورطة كبيرة حين بدأوا بإنتاج فيلم الحديقة الديناصورية في عقد التسعينات.. فهذا الفيلم يتمحور حول إعادة استيلاد الديناصورات المنقرضة من خلال تقنية الاستنساخ الوراثي.. وفي حين تكفلت المؤثرات الخاصة بتقديم صور مدهشة للديناصورات، لم يعرف أحد فعلاً كيف كانت أصواتها في الماضي (خصوصاً في ظل وجود أكثر من 32 نوعاً مختلفاً تظهر في الفيلم).. ولحل هذه المشكلة استعان المنتجون بخبراء تشريح لتخمين طبيعية الأصوات التي تخرج من حناجر ديناصورات متحجرة (ظهرت إحداها في الفيلم نفسه ينفخ فيها الدكتور إيان مالكولم للفت انتباه أحد الديناصورات)!!
... وكي لا تضيع علينا اليوم أصوات ألفناها؛ بدأنا نسمع بمتاحف الأصوات التي بدأت تنشر على الإنترنت.. وكان مبرمج الكمبيوتر جان ديكرسن أول من أنشأ متحفاً من هذا النوع حين افتقد صوت لعبة كان يمارسها في طفولته (تدعى سوبر ماريو) فقرر العثور عليها وتسجيلها كملف رقمي.. وشيئاً فشيئاً تطور المشروع وأصبح موقعه يتضمن أكثر من 120 صوتاً يحن لها الآباء والأجداد ولا يعرفها الأبناء والأحفاد.. ومن النماذج الموجودة في موقع ديكرسن صوت "الموديوم" القديم حين يتصل بالإنترنت، وقرص الهاتف اليدوي حين يعود إلى الخلف، وصوت الطابعة اليدوية حين تعود لبداية السطر.. ناهيك عن أصوات القطارات البخارية وأبواق السيارات القديمة !!
.. بقي أن أشير إلى قصة حقيقية حدثت لي وسبق أن استعرضتها في مقال قديم لها علاقة بموضوع اليوم:
فحين أُطلقت المركبة الفضائية بايونير عام1972 كانت تحمل خريطة معدنية نقش عليها موقع الأرض مع رسم لرجل وامرأة وتسجيل لآلاف الأصوات الموجودة على كوكب الأرض (كنوع من التواصل مع المخلوقات الفضائية في حال صادفوها ذات يوم)!!
.. وحين زرت متحف الفضاء في كاليفورنيا عام1996 رأيت أنموذجاً للمركبة والخريطة وكانت دهشتي عظيمه حين اكتشفت أن من بين الأصوات المسجلة عليها صوت عبدالباسط عبدالصمد يقرأ قوله تعالى:
(يامعشر الجن والإنس إن استطعتم إن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان).
... وشاهد الخريطة بنفسك بإدخال Pioneer plaque في صور جوجل!!
الرياض