اللحظة الحاسمة
اللحظة الحاسمة
عادل الكلباني
عدم التهاون بالوقت أساس كمال العمل، وكم هي اللحظات والساعات فضلًا عن الأيام والليالي التي نفرط ولا نكترث بها، وهي ليست حقًّا خاصًّا بنا، بل ربما كانت تلك الساعات والأيام واللحظات التي تضيع هي ملك لتلك المدرسة أو ذاك المشفى أو تلك الشركة
«بعثت أنا والساعة كهاتين» جملة نبوية قد حفظها جُل المسلمين، وحفظوا معها الإشارة بالأصبعين السبابة والوسطى، قالها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لبيان ضآلة الزمن بين بعثته ونهاية الحياة الدنيا، وهو زمن «عريض طويل» مضت عليه قرون. ومن منظور آخر؛ هو منظور «استغلالية الوقت»، الذي حث عليه الإسلام؛ إذ إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين قلل زمن البقاء على الدنيا وتقاربه، لم يرد إدخال اليأس في نفوس السامعين، بل أراد منهم العزم والحزم لاستغلال هذا الوقت استغلالاً فرديّا وجماعيًّا، بما يكون فيه خير دنياهم وأخراهم، وأشار إلى أهمية «اللحظة الواحدة» في حياة الفرد والمجتمع في جملة مشهورة ومحفوظة أيضا «إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة فليغرسها» وهي لفتة منه صلى الله عليه وآله وسلم قد لا تستوعبها كتب ومحاضرات، ولكن ما يهمنا هنا هو استغلال الوقت في تلك اللحظات المهولة بما يعود نفعه على الفرد ذاته في توجهه لفعل الخير، وفي إحياء الأمل في نفسه، وأيضًا بالشيء الذي ينتفع به البشر والشجر والحجر، والحياة بمجملها، وهو غرس فسيلة!
واستغلال الوقت لا يختص بفعل العبادات كالصلاة والصوم وغير ذلك، وإن كان ذلك جزءًا مهمًا في حياة المسلم، وقد أحسن من أشار إليها بقوله:
اغْتَنِمْ فِي الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ
فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَةْ
كَمْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ
ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَةْ
وَقَالَ آخر:
مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلًا
وَأَعْقَبَهُ يَوْمٌ عَلَيْكَ جَدِيدُ
فَإِنْ كُنْتَ بِالْأَمْسِ اقْتَرَفْتَ إِسَاءَةً
فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
فَيَوْمُكُ إِنْ أَعْقَبْتَهُ عَادَ نَفْعُهُ عَلَيْكَ
وَمَاضِي الْأَمْسِ لَيْسَ يَعُودُ
وَلَا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ يَوْمًا إِلَى غَدٍ
لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ
ولكن هناك ما لا يقل شأنًا عن ذلك، ويحتاج إلى استغلال الوقت والحفاظ عليه، والإخلاص في استغلاله، وحيث إن تغير الزمن أوجد شعوبًا تفرق في حضارتها وحياتها «اللحظة الحاسمة»، فقد لزم الجد في ذلك، ولا نريد أن نضرب مثلاً بذلك الشعب أو تلك الدولة التي كانت قبل سنين قليلة في «لحظات انهيار» اقتصادي وعسكري، ولكنها في غضون هذه السنين أصبحت في مصاف الدول التي «تسمى الكبرى»، وهناك من الأمثلة دول وأفراد لا يفسح الموضع لذكرها، ولو بحثت لوجدت عدم التهاون بالوقت أساس كمال العمل، وكم هي اللحظات والساعات فضلًا عن الأيام والليالي التي نفرط ولا نكترث بها، وهي ليست حقًّا خاصًّا بنا، بل ربما كانت تلك الساعات والأيام واللحظات التي تضيع هي ملك لتلك المدرسة أو ذاك المشفى أو تلك الشركة، أو حق من حقوق تلك الوزارة، أو تلك الإدارة!
وربما استطاع ذاك الوزير أو ذاك الموظف أن ينجز عدة معاملات، في اللحظة الأخيرة، أو استطاع ذلك الأستاذ في اللحظات الأخيرة أن يزرع أعظم درس في نفوس طلابه، وهو احترام وقت العمل.
اللحظات الحاسمة تعرف أهميتها العقول المؤمنة بسرعة تغير الأحوال في أقل وقت، وقد سمع رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم - بمرض غلام، فأسرع إليه يلقنه الإسلام حتى أسلم ثم مات، فاستبشر نبينا وحمد الله على استغلال الغلام للحظته الأخيرة من الدنيا، وهو ما يعبر عنها قوله عليه الصلاة والسلام: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. فهذه اللحظة الأخيرة هي «اللحظة الحاسمة»، التي يتمناها كل مسلم.
وعبر التاريخ كانت اللحظات هي الفاصل والحازم في معارك فاصلة في السياسة، ولا ينسى المسلمون ما حصل لهم في أحد من هزيمة بعد نصر؛ بسبب عدم الاكتراث باللحظات الحاسمة التي استغلها عدوهم ولم ييأس بعد رؤيته الهزيمة، وفي كل المجالات تجد أن أثر اللحظة أعظم من مجرد كونها لحظة، وفي الصلاة تجد أحدهم يسرع في وضوئه وفي جريه ليدرك ولو لحظة من الجماعة، وقد يكون أضاع أضعاف أضعافها في وظيفته من دون اكتراث، وليس ذلك إلا للتصور الخطأ في تثمين الوقت بمقاييس لم تضبط بمراد الشرع. وما نال عكاشة بن محصن ذاك الفضل العظيم بدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب إلا باستغلاله لحظة كانت أسعد لحظات حياته، وأكثرها أثرا في آخرته. هذا، والله من وراء القصد.
الرياض
عادل الكلباني
عدم التهاون بالوقت أساس كمال العمل، وكم هي اللحظات والساعات فضلًا عن الأيام والليالي التي نفرط ولا نكترث بها، وهي ليست حقًّا خاصًّا بنا، بل ربما كانت تلك الساعات والأيام واللحظات التي تضيع هي ملك لتلك المدرسة أو ذاك المشفى أو تلك الشركة
«بعثت أنا والساعة كهاتين» جملة نبوية قد حفظها جُل المسلمين، وحفظوا معها الإشارة بالأصبعين السبابة والوسطى، قالها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لبيان ضآلة الزمن بين بعثته ونهاية الحياة الدنيا، وهو زمن «عريض طويل» مضت عليه قرون. ومن منظور آخر؛ هو منظور «استغلالية الوقت»، الذي حث عليه الإسلام؛ إذ إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين قلل زمن البقاء على الدنيا وتقاربه، لم يرد إدخال اليأس في نفوس السامعين، بل أراد منهم العزم والحزم لاستغلال هذا الوقت استغلالاً فرديّا وجماعيًّا، بما يكون فيه خير دنياهم وأخراهم، وأشار إلى أهمية «اللحظة الواحدة» في حياة الفرد والمجتمع في جملة مشهورة ومحفوظة أيضا «إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة فليغرسها» وهي لفتة منه صلى الله عليه وآله وسلم قد لا تستوعبها كتب ومحاضرات، ولكن ما يهمنا هنا هو استغلال الوقت في تلك اللحظات المهولة بما يعود نفعه على الفرد ذاته في توجهه لفعل الخير، وفي إحياء الأمل في نفسه، وأيضًا بالشيء الذي ينتفع به البشر والشجر والحجر، والحياة بمجملها، وهو غرس فسيلة!
واستغلال الوقت لا يختص بفعل العبادات كالصلاة والصوم وغير ذلك، وإن كان ذلك جزءًا مهمًا في حياة المسلم، وقد أحسن من أشار إليها بقوله:
اغْتَنِمْ فِي الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ
فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَةْ
كَمْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ
ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَةْ
وَقَالَ آخر:
مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلًا
وَأَعْقَبَهُ يَوْمٌ عَلَيْكَ جَدِيدُ
فَإِنْ كُنْتَ بِالْأَمْسِ اقْتَرَفْتَ إِسَاءَةً
فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
فَيَوْمُكُ إِنْ أَعْقَبْتَهُ عَادَ نَفْعُهُ عَلَيْكَ
وَمَاضِي الْأَمْسِ لَيْسَ يَعُودُ
وَلَا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ يَوْمًا إِلَى غَدٍ
لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ
ولكن هناك ما لا يقل شأنًا عن ذلك، ويحتاج إلى استغلال الوقت والحفاظ عليه، والإخلاص في استغلاله، وحيث إن تغير الزمن أوجد شعوبًا تفرق في حضارتها وحياتها «اللحظة الحاسمة»، فقد لزم الجد في ذلك، ولا نريد أن نضرب مثلاً بذلك الشعب أو تلك الدولة التي كانت قبل سنين قليلة في «لحظات انهيار» اقتصادي وعسكري، ولكنها في غضون هذه السنين أصبحت في مصاف الدول التي «تسمى الكبرى»، وهناك من الأمثلة دول وأفراد لا يفسح الموضع لذكرها، ولو بحثت لوجدت عدم التهاون بالوقت أساس كمال العمل، وكم هي اللحظات والساعات فضلًا عن الأيام والليالي التي نفرط ولا نكترث بها، وهي ليست حقًّا خاصًّا بنا، بل ربما كانت تلك الساعات والأيام واللحظات التي تضيع هي ملك لتلك المدرسة أو ذاك المشفى أو تلك الشركة، أو حق من حقوق تلك الوزارة، أو تلك الإدارة!
وربما استطاع ذاك الوزير أو ذاك الموظف أن ينجز عدة معاملات، في اللحظة الأخيرة، أو استطاع ذلك الأستاذ في اللحظات الأخيرة أن يزرع أعظم درس في نفوس طلابه، وهو احترام وقت العمل.
اللحظات الحاسمة تعرف أهميتها العقول المؤمنة بسرعة تغير الأحوال في أقل وقت، وقد سمع رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم - بمرض غلام، فأسرع إليه يلقنه الإسلام حتى أسلم ثم مات، فاستبشر نبينا وحمد الله على استغلال الغلام للحظته الأخيرة من الدنيا، وهو ما يعبر عنها قوله عليه الصلاة والسلام: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. فهذه اللحظة الأخيرة هي «اللحظة الحاسمة»، التي يتمناها كل مسلم.
وعبر التاريخ كانت اللحظات هي الفاصل والحازم في معارك فاصلة في السياسة، ولا ينسى المسلمون ما حصل لهم في أحد من هزيمة بعد نصر؛ بسبب عدم الاكتراث باللحظات الحاسمة التي استغلها عدوهم ولم ييأس بعد رؤيته الهزيمة، وفي كل المجالات تجد أن أثر اللحظة أعظم من مجرد كونها لحظة، وفي الصلاة تجد أحدهم يسرع في وضوئه وفي جريه ليدرك ولو لحظة من الجماعة، وقد يكون أضاع أضعاف أضعافها في وظيفته من دون اكتراث، وليس ذلك إلا للتصور الخطأ في تثمين الوقت بمقاييس لم تضبط بمراد الشرع. وما نال عكاشة بن محصن ذاك الفضل العظيم بدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب إلا باستغلاله لحظة كانت أسعد لحظات حياته، وأكثرها أثرا في آخرته. هذا، والله من وراء القصد.
الرياض