• ×
admin

في مجتمع التنافس العالمي.. اليابان والسيادة الاقتصادية

في مجتمع التنافس العالمي.. اليابان والسيادة الاقتصادية

د. عبدالله الزازان

إن الإفادة القصوى من العلم، الذي نتلقاه في مدرجات الجامعات ومعاملها ومكتباتها، لا تتم إذا لم نخضع هذا العلم لنسق عقلي، نؤمن به عن اقتناع وجداني وعقلي لمقتضيات حياتنا وحاجاتنا، فالعلم يجب أن يكون متوجهًا نحو غاية واضحة..

في فترات سابقة، حظيت بفرصة نادرة لالتقاء شخصيات يابانية ملهمة من أساتذة جامعة وطلاب ما فوق الجامعة.. كانت الأسئلة التي كنا نتداولها في مادة تاريخ اليابان: ما الذي يُحدِث الفرق الأكبر في حياة الدول؟ وكيف تنقل دولة ما حياتها إلى مستوى آخر أو مستوى أفضل؟ وكانت النقطة الرئيسة التي كانت مثار نقاشنا: على أي قوة تستند اليابان في تسيدها العالمي؟

ولقد تبين لي من درس اليابان، أن هنالك عاملين مهمين على الإطلاق يلعبان دورًا بارزًا في درج الصعود الياباني، بل في بداية مراحل صناعة إمبراطورية اليابان الاقتصادية وأخذها بأسباب التقدم:

العامل الأول: المعرفة العميقة، وطلب العلم بمنتهى الجدية؛ فالتعليم في اليابان يأخذ حجمًا وأهمية يفوقان كل اعتبار آخر؛ لأن العلم القاعدة التي تعتمد عليها الحياة العلمية والاقتصادية، والإنتاج الثقافي، والعطاء الإبداعي، وتنمية وتيسير سبل الحياة، والإسهام في تقدم البشرية.

والحديث عن العلم لا يمكن أن يظل حديثًا عن قائمة من المعلومات مخزونة في رؤوس الأفراد، أو بين جدران الجامعات والمكتبات، ولا يمكن أن يظل حديثًا عن مجموعة من الشهادات والبحوث، أو مقدرة على فهم علم التكنولوجيا الحديث فحسب، صحيح أنها كلها دلائل على أن للعلم دورًا في الحياة، ولكن يبقى الأهم من ذلك هو أن تصير للعلم قيمة إبداعية.

إن الإفادة القصوى من العلم، الذي نتلقاه في مدرجات الجامعات ومعاملها ومكتباتها، لا تتم إذا لم نخضع هذا العلم لنسق عقلي، نؤمن به عن اقتناع وجداني وعقلي لمقتضيات حياتنا وحاجاتنا، فالعلم يجب أن يكون متوجهًا نحو غاية واضحة.

العامل الثاني الذي قامت عليه اليابان: التحسين المستمر أو التغيير إلى الأفضل أو الأحسن؛ وهو منهجية يابانية لتحسين الأداء على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، ويعبر عنه بالمصطلح Kai ويعني التغيير، وZan ويعني إلى الأفضل، ويقصد منه ضمان الجودة الذي تعود فكرته إلى د. ديمنج.

فقد أتى د. ديمنج إلى اليابان عقب الكساد الاقتصادي الذي هز اليابان، وألحق بمؤسساتها الاقتصادية والمالية أفدح النكسات في التاريخ الاقتصادي الحديث؛ حيث دخلت المؤسسات المالية والاقتصادية اليابانية في غيبوبة، وظن بعض أصحاب الأعمال أن الحياة الاقتصادية في اليابان قد أصابها الشلل إلى الأبد، واستقبلته اليابان الطامعة في التفوق بالحفاوة، وعلى أكتافه وأكتاف زملائه شيدت اليابان تفوقها الاقتصادي، فقد كان حجر الزاوية في الثورة الصناعية التي أحدثت تغيرًا كبيرًا في شتى نواحي الحياة، ودللت على الحيوية الكبيرة التي يتمتع بها العقل الياباني القوي.

بدأ د. ديمنج برنامجه بتدريب اليابانيين على مبادئ ضمان الجودة، التي تمثل أربعة عشر مبدأ تعتبر حتى هذا اليوم الأساس القوي للاقتصاد الياباني، الذي تتزعمه الشركات اليابانية الكبرى، والذي على إثره دخلت التجارة اليابانية في نمو متصاعد، وتزايدت أقدار الإنتاج، وتبوأت السيادة العالمية.

البرنامج ببساطة تامة هو الالتزام المستمر والدائم برفع نوعية الأداء في كل يوم باعتباره العامل الذي يضمن السيطرة على أسواق العالم.

وقد أكد د. ديمنج أن النوعية لا تعني تلبية مقاييس معينة فحسب؛ بل هي في الواقع إنجاز متلاحق وعملية من التحسين المستمر، الذي لا ينقطع، بحيث لا يمر يوم واحد من دون إجراء تحسينات في أي وقت وفي أي مكان؛ إذ - في عرفه - لا يوجد شيء على الإطلاق لا يمكن تحسينه.

وقد وعد د. ديمنج اليابانيين بالالتزام بهذه المبادئ، التي بموجبها سيغرقون الأسواق العالمية بالمنتجات النوعية خلال خمس سنوات، وسيصبحون إحدى أكبر القوى الاقتصادية المهيمنة على العالم خلال عقد أو عقدين من الزمن.

وفي اليابان، يتم فهم هذا المبدأ فهمًا حسنًا لرفع مستوى النوعية والتحسين المستمر؛ أي التحسين التدريبي المستمر في جميع النواحي، وذلك عن طريق إدخال تحسينات تدريبية صغيرة وبسيطة ومستمرة.

وهي شائعة في اللغة اليابانية (كايزن)؛ أي التحسين في مجال الأعمال التجارية، أو التغير إلى الأفضل، أو التغير إلى الأحسن، وتستعمل في لغتهم باستمرار؛ إذ يتحدثون دائمًا عن التحسين المستمر للعجز التجاري، والتحسين المستمر لخطوط الإنتاج، والتحسين المستمر للأداء.. ونتيجة لذلك فهم يتطلعون دومًا للسبل التي تمكنهم من التحسين، غير أن اليابانيين يدركون أن التحسينات الصغيرة التي يتم إجراؤها يوميًا تخلق نقلات نوعية.

وعن طريق هذا المبدأ استطاع سيكيرو هوندا، أن يقف أمام الفقر والفشل الدراسي والحرب والزلازل والركود الاقتصادي، ويؤسس أفضل الشركات المنتجة للسيارات والدراجات النارية في العالم شركة هوندا موتور.

وعلى إثر هذا المبدأ تمكن كيشيروا أحد العشرة الأوائل، الذين تسيدوا صناعة السيارات في اليابان، من إنتاج أول سيارة تويوتا.

ومع بدايات الخمسينيات الميلادية، انتقلت "تويوتا" من المحلية اليابانية إلى العالمية، وأصبحت "تويوتا" أكبر مصنع لإنتاج السيارات في اليابان، وبعد سنوات توسعت خطوط إنتاجها على مستوى العالم ليصل إلى 42 مصنعًا منتشرة في أكثر من 25 دولة حول العالم.

الرياض
بواسطة : admin
 0  0  792