• ×
admin

مع أستاذي العزيز في أوسلو

مع أستاذي العزيز في أوسلو

د. مشاري النعيم

يبدو أن النرويجيين لا يحبذون الخروج من منازلهم باكراً في الشتاء، وأغلب المحلات لا تعمل إلا عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، أستاذي الأميركي الذي يبلغ من العمر 76 عاماً قال لي: دعنا نذهبْ ونرَ مبنى "الأوبرا" الذي صممه المكتب المعماري النرويجي "سنوهيتا"..

درجة الحرارة تبلغ الخمسة تحت الصفر، وأنا أسير مع أستاذي العزيز الناقد المعماري (جيمس ستيل) في الطريق الذي يقع عليه الفندق (جراند هوتيل) الذي كنا نسكنه في العاصمة النرويجية "أوسلو"، كان صباحاً هادئاً إذ يبدو أن النرويجيين لا يحبذون الخروج من منازلهم باكراً في الشتاء، وأغلب المحلات لا تعمل إلا عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، أستاذي الأميركي الذي يبلغ من العمر 76 عاماً قال لي: دعنا نذهب ونرَ مبنى "الأوبرا" الذي صممه المكتب المعماري النرويجي "سنوهيتا" وهو نفس المكتب الذي صمم مكتبة الإسكندرية ومركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي في الظهران (إثراء)، الطقس كان في غاية البرودة والثلج الذي كان يتساقط قبل يوم تحول إلى سطوح صلبة ملساء، لكن كانت حرارة الحوار أثناء الطريق والتعليقات المعمارية تبعث الدفء في كلينا. دار الأوربرا لم تكن بعيدة عنا كثيرا لكننا كنا نتحدث في الطريق عن متحف العمارة الذي زرناه قبل يوم، الذي صمم التوسعة الجديدة فيه المعماري النرويجي الحاصل على جائزة "برتزكر" "سيرا فين" في العام 1997م، كنا نتحدث عن رجل الأمن الذي فتح لنا القاعة الجديدة (رغم أنها كانت مغلقة أثناء زيارتنا) ورافقنا في جولتنا وكان يتحدث عن المبنى وكأنه "مؤرخ للفنون".

كنت أقول لجيمس إنني منبهر بثقافة حارس الأمن في متحف العمارة، وأكدت له أن هذا ما ينقصنا أن يكون من يعمل في مجال الثقافة، حتى لو كان حارس أمن بسيط، ملماً بتاريخ المكان الذي يعمل فيه، وذكرته بقصة حدثت لي قبل سنوات عندما زرت مبنى شركة "سويسري" الأسطواني في لندن الذي صممه "نورمان فوستر" ورافقني رجل الأمن وهو يتحدث عن المبنى فقلت له إن المصمم "فوستر" فقال لي "سير فوستر" ولم يكن في ذلك الوقت أصبح لورداً، ما شدني في الموقفين هو هذا الانجذاب للعمارة من قبل ناس بسطاء شعروا بقيمة المكان الذي يعملون فيه.

عندما وصلنا دار الأوبرا المشهورة بواجهتها الخامسة أو سقفها المائل الذي يسمح لسكان المدينة السير عليه واستخدامه كساحة تطل على طرف البحر في منظر ساحر، لكن للأسف كان السطح مغطىً بالثلج ولم يتح لنا السير فوقه إلا على الأطراف، وعندما دخلنا إلى المبنى قال لي "ستيل" إن "سنوهيتا" يعرفون كيف يصنعون الفضاء الداخلي للمباني الثقافية وكأنه "سوقاً للثقافة" أو مكاناً حضرياً يصنع الحياة الاجتماعية الثقافية، قلت له هذا فعلا ملاحظ في جميع أعمال هذا المكتب النرويجي ففي مكتبة الإسكندية التي حصلت على جائزة الأغاخان، قبل سنوات، يشعر من يزور المكتبة بالفضاء الجامع وهذا ما شعرت به في مبنى "إثراء" في "البلازا" التي تمثل ملتقى مكونات المركز المتعددة الوظائف.

جلسنا في المقهى الذي يقع في منتصف الساحة الداخلية (البهو) للأوبرا وصرنا نتأمل البحر الذي يحيط بالمبنى والتفاصيل الداخلية وتوقفنا عند الحائط الكبير لقاعة الأداء التي تظهر في البهو مغطاة بقطع من الأخشاب الصغيرة ولم يكن المشهد مريحاً بالنسبة لنا لكن هذه التفاصيل غالباً ما يكون لها ما يبررها من قبل المصمم. كان في الطرف الآخر حول المدينة القديمة لسان ممتد في البحر قيل لنا إنه تجمع سكني / ثقافي / ترفيهي يستحق الزيارة، فقلت لأستاذي العزيز لننطلق لذلك المكان ونرى، ولم يكن بعيداً عنا فخلال نصف ساعة مشياً على الأقدام كنا وصلنا إلى "قاعة المدينة" أو مبنى البلدية وهو مبنى من الثلاثينات الميلادية (استمر البناء بين 1931 إلى 1950 أثناء الحرب العالمية الثانية) ضمن المدرسة الوظيفية في العمارة صممه المعماريان "أرنستين أرنبيرج" و "ماجنوس بولوسون"، وهو مبنى بالطوب الأحمر بحرفية عالية جداً والتفاصيل الرخامية في أطر الأبواب ووزرات الجدران المرتفة لأكثر من متر مع التماثيل المنحوتة والرسومات الجدارية يجعل المبنى مدهشاً، وعلامة فارقة في تاريخ مدينة أوسلو.

أمضينا حوالي ساعة ونحن نلف حول المبنى ونصور التفاصيل ونشاهد المجمع المكتبي والسكني الذي بني كجزء من المبنى على شكل نصف دائرة ليشكل ساحة عظيمة في الوسط تعزز من حضور قاعة المدينة. في الجهة الأخرى كان المبنى يطل على البحر ويوجد صف من التماثيل لرجال يمثلون الحرف المختلفة التي تعمل في المدينة في حضور رمزي صارخ لما تمثله "قاعة المدينة" من دور في تسيير الحياة، من بعيد كان يظهر التجمع الجديد وفي نهايته كانت هناك كتلتان منفصلتان تمر بينها قناة مائية لكن من الواضح أنهما يتبعان مبنى واحداً.

عندما اقتربنا من المبنى اتضح أنه متحف "إستريب فيرنلي" وبقربه كتلة ضخمة في طور الإنشاء مغطاة بالحجر الرمادي وتبدو من الجهة التي ننظر لها مصمته وعندما سألنا عنها تبين أنها مبنى المتحف الوطني الجديد. اتجهت مع أستاذي مباشرة إلى مدخل متحف "فيرنلي" فكانت المفاجأة أن من قام بتصميم هذا المبنى الذي تغطي واجهته الأخشاب هو المعماري الإيطالي "رينزو بيناو" الذي شارك مع "ريتشارد روجرز" في تصميم مركز "جورج بومبيدو" في باريس في السبعينات، الحديث الممتع مع أستاذي أثناء هذا التجوال المعماري الثقافي في أوسلو كان أكثر من مجر حوار، فقد كان درساً مفتوحاً في العمارة يصعب الإلمام به في مقال واحد.

الرياض
بواسطة : admin
 0  0  247