الرجالُ معادن
الرجالُ معادن
أ.د. حمزة الطيار
الرفاق والأصدقاء أصول مختلفة، وأعراق متباينة، والموفق من رُزق صاحب المعدن الطيب، وَوُفِّق لصحبة العشير الكريم، والصديق الخيِّر الوفي، صاحب الخلق والمبدأ، كالقَطر أين ما حلَّ نفع، لا تُغيِّرُهُ المواقف، ولا تُبطِرُهُ النعم، إن وجد خيراً نشره، وإن وجد شراً كتمه..
اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يكون التنوع بين المخلوقات، وهذا التنوع لحكمةٍ أرادها جل وعلا، فالماء مثلاً هناك عذبٌ فراتٌ، وهناك ملحٌ أجاج، والأراضي هناك الأرض الطيبة الخصبة المنبتة، وهناك الأرض الخبيثة السبخة التي لا تنبت، والرياح منها ما يسوق السحاب المملوء بالمطر، ومنها ما يحمل الغبار والأتربة، وكذلك الناس أيضاً ففيهم أهل الخير، وفيهم أهل الشر، وهم معادنٌ كمعادن الذهب والفضة، ولي مع ذلك بعض الوقفات:
الوقفة الأولى: جاءت النصوص الشرعية موضحة اختلاف الناس في أعمالهم وصفاتهم، وتباينهم في أخلاقهم وتصرفاتهم، يقول الحق جل وعلا: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وقال عز وجل: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)، وفي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً)، قال بعض أهل العلم: (ووجه التشبيه اشتمال المعادن على جواهر مختلفة من نفيس وخسيس، كذلك الناس)، وقال بعضهم: (المعنى أن الناس يتفاوتون في مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، وفيما يذكر عنهم من المآثر على حسب الاستعداد، ومقدار الشرف - تفاوت المعادن؛ فإن منها ما يستعد للذهب، ومنها ما يستعد للفضة، وهلم جرا، إلى غير ذلك من الجواهر المعدنية حتى ينتهي إلى الأدنى فالأدنى؛ كالحديد...) وفي رواية عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ» فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقُهُوا).
الوقفة الثانية: أن المجتمع الإنساني لا يخلو من هذا التنوع، فهناك أهل الحق وهناك أهل الباطل، وهناك المهتدون والضُّلَّال، والطيبون والخبيثون، والأخيار والأشرار، فأهل الحق والهداية والخير هم وجهُ الحياة المشرق، وهم روحٌ طيبةٌ، ونسمةٌ مباركة ما تحلُّ في شيءٍ إلا أروته من طيبها وبركاتها، فتثمر ما شاء الله عز وجل أن تثمر من خيرٍ وهدى ونفعٍ، فأثرهم الطيب ونتاجهم الجميل لا يخفى على ذي عقلٍ وبصرٍ، فهم بحقٍّ موردٌ من موارد الخير والهدى، وبابٌ من أبواب البر والنفع، وعلى العكس من ذلك أهل الباطل والضلالة والشر فهم وجهُ الحياة المظلم، وهم روحٌ خبيثةٌ، ونسمةٌ شريرةٌ ما تحلُّ في شيءٍ إلا كدّرت صفوه، وأذهبت بركته، فهم بمثابة الوباء القاتل، الذي يلقى الناس منه الأذى والعنت.
الوقفة الثالثة: أن الرجال معادن يتفاوتون في الفضل والبذل والثبات، وليس كلُّ واحدٍ بمقدوره أن يعيش في كُلِّ أحواله على مبدأ واحد، وطريقةٍ واحدة، فالاختبار والابتلاء يتبين من خلاله الخيِّرون منهم، وانجلاء خصائص فضائلهم مِنحةٌ اندرجت فيما نالهم من المحن، بل كان اختباراً قدّر الله أن ينجح فيه هذا المبتلى بامتيازٍ دون الآخر، وتتأكد به رجوليته المشهودة، وشهامته المعهودة، ولا عجب أن يزيد تألقه وتظهر كفاءته في ظل ما تعرّض له من الشدائد؛ فإن السيف الصارم يزداد حِدَّةً عند الصِّقال، فيزيد مضاؤه، وهو أنفع ما يكون إذا تعرّض لخشونة مِبْرد الصيقل، وكذلك الذهب يبقى ذهباً لكن يصير أغلى وأبهج إذا وُضع في قالبِ الصياغة، وأوقد عليه في النار ابتغاء حلية، فعند ذلك يتبدّى بأحسن صورة، وتنقشع عنه المعادن الغريبة، فيخلص خالصه، وهكذا الكرام كرامٌ على كُلِّ حالٍ يتشبَّثون بالكرم في جميع الأحوال، ويتدثَّرون بالفضائل في سرائهم وضرائهم، في صحتهم ومرضهم، في منشطهم ومكرههم، لا تتأثر أخلاقهم وطيب شمائلهم بالعوارض.
الوقفة الرابعة: أن الرفاق والأصدقاء أصولٌ مختلفةٌ، وأعراقٌ متباينةٌ، والموفق من رُزق صاحب المعدن الطيب، وَوُفِّق لصحبة العشير الكريم، والصديق الخيِّر الوفي، صاحب الخلق والمبدأ، كالقَطر أين ما حلَّ نفع، لا تُغيِّرُهُ المواقف، ولا تُبطِرُهُ النعم، إن وجد خيراً نشره، وإن وجد شراً كتمه، فهنيئاً لمن رزق لهذا الطود الشامخ الراسخ الثابت الذي لم تزعزعه عواصف المشاقّ:
تَـمَسَّكْ بالذي يهواكَ صِدقاً
ولا تشريْ مودَّتَهُ الفلوسُ
وَدَعْ مُتبسِّماً لكَ في رَخَاءٍ
وإن تُعسِرْ بدا منه العبوسُ
وإنْ تَكُ قد بُليتَ بِهِ فَهَوِّنْ
مُصابَكَ فالحياةُ لها دروسُ
الرياض
أ.د. حمزة الطيار
الرفاق والأصدقاء أصول مختلفة، وأعراق متباينة، والموفق من رُزق صاحب المعدن الطيب، وَوُفِّق لصحبة العشير الكريم، والصديق الخيِّر الوفي، صاحب الخلق والمبدأ، كالقَطر أين ما حلَّ نفع، لا تُغيِّرُهُ المواقف، ولا تُبطِرُهُ النعم، إن وجد خيراً نشره، وإن وجد شراً كتمه..
اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يكون التنوع بين المخلوقات، وهذا التنوع لحكمةٍ أرادها جل وعلا، فالماء مثلاً هناك عذبٌ فراتٌ، وهناك ملحٌ أجاج، والأراضي هناك الأرض الطيبة الخصبة المنبتة، وهناك الأرض الخبيثة السبخة التي لا تنبت، والرياح منها ما يسوق السحاب المملوء بالمطر، ومنها ما يحمل الغبار والأتربة، وكذلك الناس أيضاً ففيهم أهل الخير، وفيهم أهل الشر، وهم معادنٌ كمعادن الذهب والفضة، ولي مع ذلك بعض الوقفات:
الوقفة الأولى: جاءت النصوص الشرعية موضحة اختلاف الناس في أعمالهم وصفاتهم، وتباينهم في أخلاقهم وتصرفاتهم، يقول الحق جل وعلا: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وقال عز وجل: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)، وفي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً)، قال بعض أهل العلم: (ووجه التشبيه اشتمال المعادن على جواهر مختلفة من نفيس وخسيس، كذلك الناس)، وقال بعضهم: (المعنى أن الناس يتفاوتون في مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، وفيما يذكر عنهم من المآثر على حسب الاستعداد، ومقدار الشرف - تفاوت المعادن؛ فإن منها ما يستعد للذهب، ومنها ما يستعد للفضة، وهلم جرا، إلى غير ذلك من الجواهر المعدنية حتى ينتهي إلى الأدنى فالأدنى؛ كالحديد...) وفي رواية عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ» فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقُهُوا).
الوقفة الثانية: أن المجتمع الإنساني لا يخلو من هذا التنوع، فهناك أهل الحق وهناك أهل الباطل، وهناك المهتدون والضُّلَّال، والطيبون والخبيثون، والأخيار والأشرار، فأهل الحق والهداية والخير هم وجهُ الحياة المشرق، وهم روحٌ طيبةٌ، ونسمةٌ مباركة ما تحلُّ في شيءٍ إلا أروته من طيبها وبركاتها، فتثمر ما شاء الله عز وجل أن تثمر من خيرٍ وهدى ونفعٍ، فأثرهم الطيب ونتاجهم الجميل لا يخفى على ذي عقلٍ وبصرٍ، فهم بحقٍّ موردٌ من موارد الخير والهدى، وبابٌ من أبواب البر والنفع، وعلى العكس من ذلك أهل الباطل والضلالة والشر فهم وجهُ الحياة المظلم، وهم روحٌ خبيثةٌ، ونسمةٌ شريرةٌ ما تحلُّ في شيءٍ إلا كدّرت صفوه، وأذهبت بركته، فهم بمثابة الوباء القاتل، الذي يلقى الناس منه الأذى والعنت.
الوقفة الثالثة: أن الرجال معادن يتفاوتون في الفضل والبذل والثبات، وليس كلُّ واحدٍ بمقدوره أن يعيش في كُلِّ أحواله على مبدأ واحد، وطريقةٍ واحدة، فالاختبار والابتلاء يتبين من خلاله الخيِّرون منهم، وانجلاء خصائص فضائلهم مِنحةٌ اندرجت فيما نالهم من المحن، بل كان اختباراً قدّر الله أن ينجح فيه هذا المبتلى بامتيازٍ دون الآخر، وتتأكد به رجوليته المشهودة، وشهامته المعهودة، ولا عجب أن يزيد تألقه وتظهر كفاءته في ظل ما تعرّض له من الشدائد؛ فإن السيف الصارم يزداد حِدَّةً عند الصِّقال، فيزيد مضاؤه، وهو أنفع ما يكون إذا تعرّض لخشونة مِبْرد الصيقل، وكذلك الذهب يبقى ذهباً لكن يصير أغلى وأبهج إذا وُضع في قالبِ الصياغة، وأوقد عليه في النار ابتغاء حلية، فعند ذلك يتبدّى بأحسن صورة، وتنقشع عنه المعادن الغريبة، فيخلص خالصه، وهكذا الكرام كرامٌ على كُلِّ حالٍ يتشبَّثون بالكرم في جميع الأحوال، ويتدثَّرون بالفضائل في سرائهم وضرائهم، في صحتهم ومرضهم، في منشطهم ومكرههم، لا تتأثر أخلاقهم وطيب شمائلهم بالعوارض.
الوقفة الرابعة: أن الرفاق والأصدقاء أصولٌ مختلفةٌ، وأعراقٌ متباينةٌ، والموفق من رُزق صاحب المعدن الطيب، وَوُفِّق لصحبة العشير الكريم، والصديق الخيِّر الوفي، صاحب الخلق والمبدأ، كالقَطر أين ما حلَّ نفع، لا تُغيِّرُهُ المواقف، ولا تُبطِرُهُ النعم، إن وجد خيراً نشره، وإن وجد شراً كتمه، فهنيئاً لمن رزق لهذا الطود الشامخ الراسخ الثابت الذي لم تزعزعه عواصف المشاقّ:
تَـمَسَّكْ بالذي يهواكَ صِدقاً
ولا تشريْ مودَّتَهُ الفلوسُ
وَدَعْ مُتبسِّماً لكَ في رَخَاءٍ
وإن تُعسِرْ بدا منه العبوسُ
وإنْ تَكُ قد بُليتَ بِهِ فَهَوِّنْ
مُصابَكَ فالحياةُ لها دروسُ
الرياض