الرواية.. خزّان معرفي ومُمكِنات فلسفية مخبوءة
الرواية.. خزّان معرفي ومُمكِنات فلسفية مخبوءة
عبدالله الحسني
إنّ الرواية كنز معرفي، وخزّان إبداع فكري لا ينضب متى تم استثماره بشكل جيد يسهم في تنبيض العمل الروائي، وبث الحياة في جسده بعيداً عن السكونية الرتيبة التي تحيل الرواية إلى محض (حدّوتة) وحكاية مفرغة..
كلما ازداد وعي الكاتب بقيمة الكتابة وأهميتها تضاعف لديه شأنها وباتت سطوة البياض مرعبة بالنسبة إليه حين يهم بمعاقرة الكتابة؛ فتجده يتلبّث ويستأني ويستجمع قواه وأفكاره حتى يتيقّن أنه شجاع بما يكفي لقطع رأس تردّده وحيرته ويقتنص ومضة فكره ويشرع في الكتابة؛ أيّاً كانت تلك الكتابة.
هذا التردّد مرجعه هو الوعي باشتراطات الكتابة والفن الكتابي عموماً؛ ذلك الفن الذي يستوجب من متعاطيه توافره على طبع يتهيّأ له الكاتب وأدوات لا غنى له عنها؛ وهو ما فطن إليه مبكّراً أفذاذ الكُتّاب والنُقّاد وَدَعُوا لالتماس تلك الأدوات وعدم التعجّل بالدفع بأعمال لا تصمد أمام الأيام ولا تلبث أن تموت ويلفظها القارئ الذي بات من الوعي والقدرة على تمحيص الجيد من الرديء، سيما مع هذا الانفتاح المعرفي وتوافر وسائل القراءة لأفذاذ الأعمال والكتابات العظيمة التي تعكس قيمة وعظمة كُتّابها. وقد أشار لهذه الرداءة الأديب الفذ أحمد حسن الزيات والذي يرى أنّ آفة الفن الكتابي أن يتعاطاه من لم يتهيّأ له بطبعه ولم يستعن عليه بأداته. ويرى أنّ أكثر المُزاولين اليوم لصناعة القلم يتطفّلون عليها؛ أغراهم بها رخص المداد وسهولة النشر وإغضاء النقد، فأقبلوا يتملّقون بها الشُّهرة، أو يزجّون بها الفراغ، أو يطلبون من ورائها العيش، وكُلّ جهازهم لها ثقافة ضحلة وقريحة مَحْلة ومُحاكاة رقيمة.
هذا كلام الزيات - وهو رأي لا يختلف كثيراً عن رأي أحد أفذاذ كُتّاب القصة والرواية على مستوى العالم - أنطوان تشيخوف؛ الذي برغم تفرّده واعتبار النقاد له بأنه "أبو القصة" في العالم؛ كان مسكوناً بهاجس وحساسية الفنان التي تجعله دائم الحذر من رعب الكتابة وأهميتها وضرورة عدم الاستخفاف بها أو بالقارئ فنجد له رؤى نقدية وتبصّرات مهمة وجديرة بالتأمّل في فن الكتابة؛ نحن بحاجة للتوقف عندها والإصغاء لها، فهو يكتب عن ضرورة التواضع والشغف بتقديم الأفضل فيقول: "لو قُدّر لي أن أعيش أربعين سنة أخرى فأقرأ وأقرأ وأقرأ، وأدرّب نفسي على إجادة الكتابة، أعني الكتابة الموجزة لطلعت عليكم بما يروعكم ويذهلكم، أما الآن فلست إلا قزمًا كالآخرين..".
هذا المقال - وإن كان معني بالكتابة عموماً - لكنه يميل أكثر للفن الروائي؛ باعتبار أن الرواية هي الميدان الأفسح والأرحب لاندفاع الشباب لتعاطيها؛ وهو حق مشروع للجميع لكن المقصود من يتعجّل وهو ما زال غض الإهاب الكتابي والمعرفي؛ ممن يتعامل معه بجسارة واستخفاف لافتين؛ وما استمرار هذا المدّ الروائي المتلاطم إلاّ تجسيد لهذا التساهل في كتابتها.
مؤخراً صدر كتاب أعتقد أن من الأهمية لكل شداة الحرف والمهجوسين بالفعل الكتابي والإبداعي الاطلاع عليه؛ وهو كتاب للناقدة والروائية والمترجمة الفذة لطفية الدليمي؛ الكتاب بعنوان: "إضاءة العتمة".. أفكار ورؤى. وهي كاتبة عراقية معاصرة مُهمّة بدأت الكتابة المنتظمة منذ بواكير سبعينات القرن العشرين ولها مساهمات متناثرة في صحف عراقية؛ تنامت مسيرتها بالدأب والمثابرة حتى انتهت إلى ما ينوف على الخمسين كتاباً في الرواية والقصة والمسرحية والمصنفات المعرفية العامة والترجمة فضلاً عن آلاف المقالات في الصحف العربية. الكتاب متعدد المحاور والأفكار لكن ما يهمنا هنا هو الشأن السردي وتحديداً الرواية؛ إذ لها تبصّرات نقدية مهمة جديرة بالوقوف عندها؛ من أهمها أنها و- كما تلمّسَتْ في قراءاتها للرواية – وعبر ترجماتها لحوارات كثيرة - ميلاً طاغياً للروائيين المعاصرين نحو جعْل الرواية نصّاً معرفياً بحدود ما يمكنهم توظيفه ويأنسون له، وتشير لطفية الدليمي بثقة إلى أننا سنلمس في روايات القرن الحادي والعشرين قبسات متزايدة من المعرفة العلمية والفلسفية والسايكولوجية والتأريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية وتبرز اهتماماتها وأحلامها ونمط سلوكها، ويتفق هذا الأمر مع القناعة المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور (الحاضنة المعرفية) التي تزوّد الأجيال القادمة بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة للأجيال المسحورة بالعالم الرقمي. والخلاصة أن الرواية كنز معرفي وخزّان إبداع فكري لا ينضب متى تم استثماره بشكل جيد يسهم في تنبيض العمل الروائي وبث الحياة في جسده بعيداً عن السكونية الرتيبة التي تحيل الرواية إلى محض (حدّوتة) وحكاية مفرغة من كل الحمولات المعرفية والفلسفية التي تمنحها نسغ الحياة والخلود.
وأختم ببعض الفوائد والالتقاطات المدهشة التي تؤكد أهمية الرواية وممكناتها المخبوءة في صياغة الوعي والأفكار والتأثير والتغيير إذ تؤكد أنّ من فوائد الكتابة الروائية أنها قد تؤدّي إلى كبح التشويش الخارجي والضوضاء الصاخبة السائدة في مجتمعاتنا وتدفع الأشخاص نحو التركيز البالغ على سماع أصواتهم الداخلية الثرية المدفونة تحت غبار الإهمال والتجاهل، ويساعد هذا الأمر في تنشيط النواقل العصبية الدماغية التي تتحكّم في الكيمياء الدماغية المُكيِّفة للمزاج البشري وتقلباته وتدفع به نحو آفاق النشوة والإحساس الغامر بالسعادة.
الرياض
عبدالله الحسني
إنّ الرواية كنز معرفي، وخزّان إبداع فكري لا ينضب متى تم استثماره بشكل جيد يسهم في تنبيض العمل الروائي، وبث الحياة في جسده بعيداً عن السكونية الرتيبة التي تحيل الرواية إلى محض (حدّوتة) وحكاية مفرغة..
كلما ازداد وعي الكاتب بقيمة الكتابة وأهميتها تضاعف لديه شأنها وباتت سطوة البياض مرعبة بالنسبة إليه حين يهم بمعاقرة الكتابة؛ فتجده يتلبّث ويستأني ويستجمع قواه وأفكاره حتى يتيقّن أنه شجاع بما يكفي لقطع رأس تردّده وحيرته ويقتنص ومضة فكره ويشرع في الكتابة؛ أيّاً كانت تلك الكتابة.
هذا التردّد مرجعه هو الوعي باشتراطات الكتابة والفن الكتابي عموماً؛ ذلك الفن الذي يستوجب من متعاطيه توافره على طبع يتهيّأ له الكاتب وأدوات لا غنى له عنها؛ وهو ما فطن إليه مبكّراً أفذاذ الكُتّاب والنُقّاد وَدَعُوا لالتماس تلك الأدوات وعدم التعجّل بالدفع بأعمال لا تصمد أمام الأيام ولا تلبث أن تموت ويلفظها القارئ الذي بات من الوعي والقدرة على تمحيص الجيد من الرديء، سيما مع هذا الانفتاح المعرفي وتوافر وسائل القراءة لأفذاذ الأعمال والكتابات العظيمة التي تعكس قيمة وعظمة كُتّابها. وقد أشار لهذه الرداءة الأديب الفذ أحمد حسن الزيات والذي يرى أنّ آفة الفن الكتابي أن يتعاطاه من لم يتهيّأ له بطبعه ولم يستعن عليه بأداته. ويرى أنّ أكثر المُزاولين اليوم لصناعة القلم يتطفّلون عليها؛ أغراهم بها رخص المداد وسهولة النشر وإغضاء النقد، فأقبلوا يتملّقون بها الشُّهرة، أو يزجّون بها الفراغ، أو يطلبون من ورائها العيش، وكُلّ جهازهم لها ثقافة ضحلة وقريحة مَحْلة ومُحاكاة رقيمة.
هذا كلام الزيات - وهو رأي لا يختلف كثيراً عن رأي أحد أفذاذ كُتّاب القصة والرواية على مستوى العالم - أنطوان تشيخوف؛ الذي برغم تفرّده واعتبار النقاد له بأنه "أبو القصة" في العالم؛ كان مسكوناً بهاجس وحساسية الفنان التي تجعله دائم الحذر من رعب الكتابة وأهميتها وضرورة عدم الاستخفاف بها أو بالقارئ فنجد له رؤى نقدية وتبصّرات مهمة وجديرة بالتأمّل في فن الكتابة؛ نحن بحاجة للتوقف عندها والإصغاء لها، فهو يكتب عن ضرورة التواضع والشغف بتقديم الأفضل فيقول: "لو قُدّر لي أن أعيش أربعين سنة أخرى فأقرأ وأقرأ وأقرأ، وأدرّب نفسي على إجادة الكتابة، أعني الكتابة الموجزة لطلعت عليكم بما يروعكم ويذهلكم، أما الآن فلست إلا قزمًا كالآخرين..".
هذا المقال - وإن كان معني بالكتابة عموماً - لكنه يميل أكثر للفن الروائي؛ باعتبار أن الرواية هي الميدان الأفسح والأرحب لاندفاع الشباب لتعاطيها؛ وهو حق مشروع للجميع لكن المقصود من يتعجّل وهو ما زال غض الإهاب الكتابي والمعرفي؛ ممن يتعامل معه بجسارة واستخفاف لافتين؛ وما استمرار هذا المدّ الروائي المتلاطم إلاّ تجسيد لهذا التساهل في كتابتها.
مؤخراً صدر كتاب أعتقد أن من الأهمية لكل شداة الحرف والمهجوسين بالفعل الكتابي والإبداعي الاطلاع عليه؛ وهو كتاب للناقدة والروائية والمترجمة الفذة لطفية الدليمي؛ الكتاب بعنوان: "إضاءة العتمة".. أفكار ورؤى. وهي كاتبة عراقية معاصرة مُهمّة بدأت الكتابة المنتظمة منذ بواكير سبعينات القرن العشرين ولها مساهمات متناثرة في صحف عراقية؛ تنامت مسيرتها بالدأب والمثابرة حتى انتهت إلى ما ينوف على الخمسين كتاباً في الرواية والقصة والمسرحية والمصنفات المعرفية العامة والترجمة فضلاً عن آلاف المقالات في الصحف العربية. الكتاب متعدد المحاور والأفكار لكن ما يهمنا هنا هو الشأن السردي وتحديداً الرواية؛ إذ لها تبصّرات نقدية مهمة جديرة بالوقوف عندها؛ من أهمها أنها و- كما تلمّسَتْ في قراءاتها للرواية – وعبر ترجماتها لحوارات كثيرة - ميلاً طاغياً للروائيين المعاصرين نحو جعْل الرواية نصّاً معرفياً بحدود ما يمكنهم توظيفه ويأنسون له، وتشير لطفية الدليمي بثقة إلى أننا سنلمس في روايات القرن الحادي والعشرين قبسات متزايدة من المعرفة العلمية والفلسفية والسايكولوجية والتأريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية وتبرز اهتماماتها وأحلامها ونمط سلوكها، ويتفق هذا الأمر مع القناعة المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور (الحاضنة المعرفية) التي تزوّد الأجيال القادمة بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة للأجيال المسحورة بالعالم الرقمي. والخلاصة أن الرواية كنز معرفي وخزّان إبداع فكري لا ينضب متى تم استثماره بشكل جيد يسهم في تنبيض العمل الروائي وبث الحياة في جسده بعيداً عن السكونية الرتيبة التي تحيل الرواية إلى محض (حدّوتة) وحكاية مفرغة من كل الحمولات المعرفية والفلسفية التي تمنحها نسغ الحياة والخلود.
وأختم ببعض الفوائد والالتقاطات المدهشة التي تؤكد أهمية الرواية وممكناتها المخبوءة في صياغة الوعي والأفكار والتأثير والتغيير إذ تؤكد أنّ من فوائد الكتابة الروائية أنها قد تؤدّي إلى كبح التشويش الخارجي والضوضاء الصاخبة السائدة في مجتمعاتنا وتدفع الأشخاص نحو التركيز البالغ على سماع أصواتهم الداخلية الثرية المدفونة تحت غبار الإهمال والتجاهل، ويساعد هذا الأمر في تنشيط النواقل العصبية الدماغية التي تتحكّم في الكيمياء الدماغية المُكيِّفة للمزاج البشري وتقلباته وتدفع به نحو آفاق النشوة والإحساس الغامر بالسعادة.
الرياض