جامعة الملك عبد الله وأسرار البحر الأحمر
جامعة الملك عبد الله وأسرار البحر الأحمر
علي بن حسن التواتي
لا يكفي أن تعرف ما تريد، بل يجب أن توظف الأسلوب الأمثل لتحقيق ما تريد. هذا هو المبدأ الذي تتبعه جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في سبل تحقيق أهدافها العلمية الواضحة. ولذلك لجأت إلى المدخل التعاوني في تمويل وتنفيذ مشاريعها البحثية، فاعتمدت هذا المبدأ ضمن مهمتها الأساسية وأنشأت دائرة متخصصة للتنمية الاقتصادية تشرف على برامج تعاونية دولية منها برنامج التعاون الصناعي الذي يضم في عضويته عشرات الشركات والجامعات والهيئات العلمية والتجارية من كل أنحاء العالم. وتتضح قوة هذا المدخل الممتاز في إمكانية توفير موارد ما كان لها أن تتوفر لدى جهة واحدة مهما بلغت من الثراء، كما أن فيها تسخير للعقول العالمة من مختلف أنحاء العالم لتبادل الخبرات والتركيز على موضوع معين للدراسة مما ينعكس بالتأكيد على شكل نتاج علمي مبتكر ومدقق وربما أكثر قابلية للتطبيق، إضافة إلى أن المعرفة المتراكمة من المشاريع البحثية التي تجرى بهذه الطريقة تصبح أكثر انتشارا وتثري قواعد البيانات العالمية في موضوعات الدراسة.
ومن هذا المنطلق نفذت الجامعة بعض المشروعات البحثية التعاونية حتى قبل استكمال بناء منشآتها الحالية وافتتاحها في ثول. ففي سنة 2008م ساهمت الجامعة في تمويل تنفيذ مشروع علمي بحثي للكشف عن مزيد من الأسرار التي لم تفصح عنها أعماق البحر الأحمر بالاشتراك مع معهد (وودز هول) الأمريكي لعلوم البحار، وجامعة هونج كونج للعلوم والتقنية. وتمثل المشروع في رحلة استكشاف علمية لبركتين من برك المياه المالحة في البحر الأحمر. وبرك المياه المالحة هذه عبارة عن مناطق عميقة تقع على طول خط الجرف القاري الفاصل بين آسيا وأفريقيا والمتشكل نتيجة للانكسار الأخدودي العظيم الذي بدأ من كينيا حتى جنوب تركيا وتسبب في ظهور البحر الأحمر الذي يزداد اتساعا بمقدار كيلو متر واحد كل عشرة ملايين سنة، وتسبب أيضا في وجود هذه البرك التي تتميز بالعمق الذي قد يتعدى (2000) متر من سطح البحر وتترسب في قيعانها طبقات متراصة بعضها فوق بعض من رواسب ملحية وطينية لزجة مختلفة الألوان تشبه (معجون الأسنان) وتزداد كثافة كلما اتجهنا أكثر نحو الأعماق مما يعطي هذه البرك لونا عميق الزرقة أقرب إلى السواد يميزها عن باقي ألوان مياه البحر المحيطة بها. وسميت بالبرك المالحة لأن درجة الملوحة فيها تزيد على (250) وحدة ملوحة عملية PSU علما بأن ملوحة ماء المحيط في حدود (35) وحدة ملوحة عملية فقط، مما يعني أن ملوحتها تزيد (10) مرات تقريبا على ملوحة ماء المحيط. وتتميز هذه البرك المالحة أيضا بأن درجة حرارتها تزيد كثيرا عن درجة حرارة البحر الأحمر. فهي تتراوح فيما بين 45 إلى 70 درجة مئوية في حين أن درجة حرارة البحر الأحمر تدور حول (22) درجة مئوية.
ويوجد في البحر الأحمر من هذه البرك المالحة (18) بركة مكتشفة ومحددة الأماكن حتى الآن، إلا أن أكثرها شهرة هما بركتان تشكلان مع مكة المكرمة مثلثا رأسه مكة وطول أحد أضلاعه جنوبا حوالي 180 كلم تقريبا في البحر الأحمر نحو بركة مالحة تعرف عالميا بمسمى (دسكفري) أما الضلع الثاني فينفرج نحو الشمال بمقدار (8) درجات بطول 190 كلم تقريبا نحو بركة أخرى أكبر حجما تعرف عالميا بمسمى (أتلانتيس تو) . وقد سميت البركة الأولى على اسم سفينة الأبحاث الإنجليزية التي اكتشفتها سنة 1963م، وسميت الثانية على اسم سفينة الأبحاث الأمريكية التي اكتشفتها بعد ذلك التاريخ بعدة أشهر. وتوصف حالة بحيرة (دسكفري) البيئية بأنها في (سبات خامل) ومازالت درجة الحرارة فيها تدور حول (40) درجة مئوية منذ اكتشافها، أما (أتلانتيس تو) التي تعتبر الأكبر من نوعها حتى الآن في البحر الأحمر لامتداد سطحها على مساحة (60) كيلومترا مربعا فهي في حالة (سبات نشط) وتزايدت حرارتها في السنوات العشر الأخيرة حتى وصلت إلى حوالي (70) درجة مئوية تقريبا، ولكن على مدى عشرين عاما يبدو أن درجات الحرارة تتباطأ في الارتفاع. والسبب في وصف حالتها البيئية بالسبات النشط هو أنها تبقى خاملة لفترة ثم تجتاحها التيارات البحرية فتخرج عينات مما في داخلها إلى سطحها.
وبدراسة ما تقذف به التيارات من داخل بحيرة (أتلانتيس تو) من رواسب القاع اتضح أنه يحتوي على عدد من المعادن منها الحديد والزنك والنحاس والذهب والفضة مما أعطى لهذه البحيرة (دون غيرها) قيمة اقتصادية دفعت بالسودان والمملكة إلى إنشاء هيئة مشتركة خاصة لاستثمار ثروات البحر الأحمر سنة 1975م وإلى تعديل قوانين الامتدادات القارية لحدودها البحرية إلى (1000) متر عمقا من الساحل وما يقع أعمق من ذلك يدخل ضمن المنطقة الاقتصادية المشتركة، علما بأن كل ما يمكن الاستثمار فيه في كافة البرك الثماني عشرة المعروفة يقع تحت هذا العمق. وتم عمل دراسة جدوى استمرت خمس سنوات للمشروع تكلفت (28) مليون دولارا أمريكيا، وفي سنة 1979م تحركت سفينة تعدين مزودة بحفار يشبه حفارات التنقيب عن النفط ويصل إلى عمق 2200م، وبدراسة العينات المستخرجة وجد أن مكوناتها من المعادن كانت (32 في المائة) زنك، (5 في المائة) نحاس)، و(0.07 في المائة) فضة. وقدرت الاحتياطيات المتوفرة في البركة بـمليون وتسعمائة ألف طن متري من الزنك، و(400) ألف طن متري من النحاس، و(4000) طن متري من الفضة، و(60) طنا من الذهب. وقدرت قيمة تلك الاحتياطيات بحوالي (4) مليارات دولار بأسعار سنة 1984م، وتقدر مصادر أخرى احتياطيات الحديد في الأمتار العشرة العليا من قاع البركة بحوالي (2.5) مليار دولار بأسعار نفس العام. ولكن المشروع ما لبث أن توقف حينها لأسباب فنية وبيئية وعملية كثيرة منها أن كمية الرواسب التي كان يجب نقلها إلى البر من تلك البركة لاستخلاص ما فيها من معادن تصل إلى (400) ألف طن متري.
واليوم وبعد كل هذا السبات تنفض جامعة الملك عبد الله الغبار عن هذا البحر الغامض وتعيده بقوة إلى واجهة الأحداث برحلة علمية أعدت لها جيدا نحو البركتين، خلال هذا الربيع 2010م، وقد بدأت الاستعدادات بتشكيل شراكة تعاونية عالمية مع معهد (وودز هول الأمريكي لعلوم البحار) الذي سيزود الرحلة بعدد من علمائه المميزين، والمعهد الإغريقي للدراسات البحرية الذي سيزود الرحلة بسفينة الأبحاث (أوشينوس) إضافة إلى عدد كبير من العلماء من الجامعة الأمريكية في القاهرة، وبعض الهيئات العلمية الإقليمية الأخرى في السودان ومصر والأردن واليمن وجيبوتي وأريتريا. أما أهداف الرحلة فلا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب ولكن أهمية كبرى أعطيت لأول مرة للجانب العلمي مثل دراسة جينومية (تركيبة النظم الوراثية) والتكافلية للأحياء الدقيقة في البحر الأحمر وفي البركتين إن وجدت خاصة أنه سبق وجود مثل هذه الأحياء في بركة مشابهة تسمى بركة (كبريت) وتقع شمال البحر الأحمر، وستتم أيضا دراسات على المركبات الحيوية الدقيقة النشطة في البحر الأحمر، ودراسات أخرى عن الشعب المرجانية.
إن جهدا كهذا يبذل من جوار كهذا لا بد أن ينعكس حراكا علميا هائلا ينتقل ببلادنا مراحل إلى الأمام في طريق التقدم والنمو. والأمل أن نرى باقي الجامعات وفي مقدمتها الجامعات المشاطئة للبحر غربي المملكة أو شرقيها وهي تتفاعل مع مثل هذه الأبحاث وتساهم بها مساهمة فعالة لا مجرد مساهمة رمزية كما يجري الآن لأن الفرصة سانحة والعالم الأول ــ حسب وصف صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل ــ ينتظرنا فاتحا ذراعيه على بعد أقل من خمسين كيلومترا، في ثول حيث يقف صرح الملك عبد الله شامخا وأنوار منارته المشعة بنور العلم والمعرفة تكاد تخطف الأبصار..
المصدر: صحيفة عكاظ