(بلاد الحُبّ أوطاني)
(بلاد الحُبّ أوطاني)
علي بن محمد الرباعي
سَبَقَ النبي عليه الصلاة والسلام نظريات الأنسنة عندما قال (أُحدٌ جَبَلٌ يُحبّنا ونحبه). وأنسنة الجماد أسمى معاني السمو الروحي والمشاعر الوجدانية، وما سوى الجماد من حيوان ونبات وإنسان أولى وأحق بالحُبّ.
الحُب اعتماد نفس سويّة وروح زاكية (التأدب) في التعامل مع الكون وما فيه وما يحيط به، والمحبة ميل النفس إلى جمال أو لذة أو منفعة أو فضل أو كمال.
وتزكية مشاعر البشر تجاه بعضهم تقوم على الإحسان، في جميع الشرائع والكتب المقدسة وتراث الأنبياء والمصلحين، فالنفوس جُبلت على حُبّ من أحسن إليها، وليست توجهات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة القائمة على حُبٍّ كتلك التي بُنيت على تشفٍ وانتقام وتصفية حسابات، بل حتى تطبيق القانون على المُذنبين لا يقصد به إساءة للمُدان قدر ما هو حماية له وصيانة للمجتمع من تبعات التطاول.
ورد مصطلح الحُب في القرآن «ثلاثاً وثمانين» مرة، في أربع وسبعين آية، بتسع وعشرين سورة، ولم تنسب الكراهية إلى الله إلا في آية (ولكن كره الله انبعاثهم) سورة التوبة آية ستة وأربعين، ومحبة الله تشريفٌ لمن أحبّ (المحسنين والتوابين والمتطهرين والمتقين والمقسطين والصابرين)، وعدم المحبة لا تعني كراهية والله لا يحب المستكبرين، ولا المسرفين ولا المعتدين، ولا المفسدين ولا الظالمين ولا الكافرين، ولا يحب كل مختال فخور، ولا يحب الخائنين، إلا أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
يفاخر ويباهي الآباء بأخلاق أولادهم الأسوياء المميزين، ولله المثل الأعلى فعندما دعانا لتمثل الحُب في أخلاق وقيم إنسانية مشتركة ومحمودة شرعاً وعرفاً وعقلاً، أراد أن نؤسس مع المكونات البشرية حياة مؤدبة وتفاعلاً جديراً بالإشادة، وبناء علاقات آدمية راقية تتحول إلى سلوك منضبط وغير متذبذب، دون تمييز، ولا انتقائية، ولا نعت لغيرنا بالخصوم أو الأعداء، فالخلق كلهم عيال الله.
لا خلاف على تشريع الأديان للحُب باعتباره أصلاً من أصول الإحسان، ومنطلق لسمو الإنسان، فالمُحِبُّ عالي الهمة نقي الضمير ناشط البدن زكي الروح سليم النفس ذكي العقل حريص على المصلحة وحذر من المفسدة، وتتوافق الشرائع والطبائع على أن الحُب خُلق فطري في الإنسان السوي لا يفقده إلا باعتلال فكري أو تطرّف أيديولوجي، أو اختلال نفسي، أو خِسة ودناءة طبع.
جاء في الحديث (الأنبياء إخوة دينهم واحد وأمهاتهم شتى) وإذا كنا نعتقد بأننا نمتلك دون غيرنا النور والهداية للعالم فإن إقناع الآخر بقداسة الدين الإسلامي لا يتأتى بتدنيس المقدّس بكلمة نابية ولا طعنة نافذة ولا هجوم مسلّح، ولا شعارات جوفاء.
لربما كان التاريخ مُلهِماً لمن فهم سيرورته، إلا أن الواقع مُعلّم كبير لمن فك شيفرته، ومن يقتات على ذاكرة الماضي الوهمي أو المتخيل ويتصور المخالفين والمختلفين أعداء واقعيين أو محتملين فلن يُحسن التفاعل مع حاضره ولا تحصين مستقبله.
لا أتصور أن تدعو الأديان (واحدية المصدر) للعنف والكراهية والنبذ والإقصاء للمخالف، فلو لم تكن البشرية مجتمعات لكانت مجتمعاً واحداً ولو لم تكن مجتمعاً لكانت عائلة واحدة، شأنها منذ بدأت من ملايين الأعوام، والعائلة المستقرة السوية والمتصالحة تنتج مجتمعاً سوياً، يتمتع أفراده بالمهارات والثقة بالنفس ويرون الآخرين مثلهم بل أفضل منهم ويحبون للآخرين ما يحبون لأنفسهم.
ذهب العرفاني محيي الدين ابن عربي إلى إعلاء مقام الحب باعتباره مشتركاً أخلاقياً، وتوجيهاً ربانياً لجميع خلقه باختلاف أديانهم ومذاهبهم، وليقينه أن الإسلام دِين الحُب، قال (أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحُب ديني وإيماني) ومن دعانا للحبِّ لن يأمر بالكُره.
تربينا في تلمذتنا الأولى على أن بلاد العُرب أوطاني، فاتضح أننا حجرنا واسعاً، كون المنطق يفرض أن جميع بلاد الحب أوطاننا ففيها نشعر بالأمن ومنها نكتسب الرزق وعلى أراضيها نضمن السلامة، وكم أَحْسَنَتْ بلدان غير عربية وليست إسلامية لعرب ومسلمين فكافأ بعض المسلمين وبعض العرب الإحسان بالسوء والإجرام، وأولئك يجهلون أن الحُبَّ قوة في الخير لا حماقة في التصرف، وقديماً قال المتنبي (وإن قليل الحُب بالعقل صالح، وإن كثير الحب بالجهل فاسدُ).
إذا كانت كل الأديان والعلماء والفلاسفة والمثقفين عبر تاريخ طويل في اصطفاف حميم مع الحُبِّ فمن أين نبعت في نفوس بعضنا كل هذه الكراهية؟.
عكاظ
علي بن محمد الرباعي
سَبَقَ النبي عليه الصلاة والسلام نظريات الأنسنة عندما قال (أُحدٌ جَبَلٌ يُحبّنا ونحبه). وأنسنة الجماد أسمى معاني السمو الروحي والمشاعر الوجدانية، وما سوى الجماد من حيوان ونبات وإنسان أولى وأحق بالحُبّ.
الحُب اعتماد نفس سويّة وروح زاكية (التأدب) في التعامل مع الكون وما فيه وما يحيط به، والمحبة ميل النفس إلى جمال أو لذة أو منفعة أو فضل أو كمال.
وتزكية مشاعر البشر تجاه بعضهم تقوم على الإحسان، في جميع الشرائع والكتب المقدسة وتراث الأنبياء والمصلحين، فالنفوس جُبلت على حُبّ من أحسن إليها، وليست توجهات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة القائمة على حُبٍّ كتلك التي بُنيت على تشفٍ وانتقام وتصفية حسابات، بل حتى تطبيق القانون على المُذنبين لا يقصد به إساءة للمُدان قدر ما هو حماية له وصيانة للمجتمع من تبعات التطاول.
ورد مصطلح الحُب في القرآن «ثلاثاً وثمانين» مرة، في أربع وسبعين آية، بتسع وعشرين سورة، ولم تنسب الكراهية إلى الله إلا في آية (ولكن كره الله انبعاثهم) سورة التوبة آية ستة وأربعين، ومحبة الله تشريفٌ لمن أحبّ (المحسنين والتوابين والمتطهرين والمتقين والمقسطين والصابرين)، وعدم المحبة لا تعني كراهية والله لا يحب المستكبرين، ولا المسرفين ولا المعتدين، ولا المفسدين ولا الظالمين ولا الكافرين، ولا يحب كل مختال فخور، ولا يحب الخائنين، إلا أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
يفاخر ويباهي الآباء بأخلاق أولادهم الأسوياء المميزين، ولله المثل الأعلى فعندما دعانا لتمثل الحُب في أخلاق وقيم إنسانية مشتركة ومحمودة شرعاً وعرفاً وعقلاً، أراد أن نؤسس مع المكونات البشرية حياة مؤدبة وتفاعلاً جديراً بالإشادة، وبناء علاقات آدمية راقية تتحول إلى سلوك منضبط وغير متذبذب، دون تمييز، ولا انتقائية، ولا نعت لغيرنا بالخصوم أو الأعداء، فالخلق كلهم عيال الله.
لا خلاف على تشريع الأديان للحُب باعتباره أصلاً من أصول الإحسان، ومنطلق لسمو الإنسان، فالمُحِبُّ عالي الهمة نقي الضمير ناشط البدن زكي الروح سليم النفس ذكي العقل حريص على المصلحة وحذر من المفسدة، وتتوافق الشرائع والطبائع على أن الحُب خُلق فطري في الإنسان السوي لا يفقده إلا باعتلال فكري أو تطرّف أيديولوجي، أو اختلال نفسي، أو خِسة ودناءة طبع.
جاء في الحديث (الأنبياء إخوة دينهم واحد وأمهاتهم شتى) وإذا كنا نعتقد بأننا نمتلك دون غيرنا النور والهداية للعالم فإن إقناع الآخر بقداسة الدين الإسلامي لا يتأتى بتدنيس المقدّس بكلمة نابية ولا طعنة نافذة ولا هجوم مسلّح، ولا شعارات جوفاء.
لربما كان التاريخ مُلهِماً لمن فهم سيرورته، إلا أن الواقع مُعلّم كبير لمن فك شيفرته، ومن يقتات على ذاكرة الماضي الوهمي أو المتخيل ويتصور المخالفين والمختلفين أعداء واقعيين أو محتملين فلن يُحسن التفاعل مع حاضره ولا تحصين مستقبله.
لا أتصور أن تدعو الأديان (واحدية المصدر) للعنف والكراهية والنبذ والإقصاء للمخالف، فلو لم تكن البشرية مجتمعات لكانت مجتمعاً واحداً ولو لم تكن مجتمعاً لكانت عائلة واحدة، شأنها منذ بدأت من ملايين الأعوام، والعائلة المستقرة السوية والمتصالحة تنتج مجتمعاً سوياً، يتمتع أفراده بالمهارات والثقة بالنفس ويرون الآخرين مثلهم بل أفضل منهم ويحبون للآخرين ما يحبون لأنفسهم.
ذهب العرفاني محيي الدين ابن عربي إلى إعلاء مقام الحب باعتباره مشتركاً أخلاقياً، وتوجيهاً ربانياً لجميع خلقه باختلاف أديانهم ومذاهبهم، وليقينه أن الإسلام دِين الحُب، قال (أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحُب ديني وإيماني) ومن دعانا للحبِّ لن يأمر بالكُره.
تربينا في تلمذتنا الأولى على أن بلاد العُرب أوطاني، فاتضح أننا حجرنا واسعاً، كون المنطق يفرض أن جميع بلاد الحب أوطاننا ففيها نشعر بالأمن ومنها نكتسب الرزق وعلى أراضيها نضمن السلامة، وكم أَحْسَنَتْ بلدان غير عربية وليست إسلامية لعرب ومسلمين فكافأ بعض المسلمين وبعض العرب الإحسان بالسوء والإجرام، وأولئك يجهلون أن الحُبَّ قوة في الخير لا حماقة في التصرف، وقديماً قال المتنبي (وإن قليل الحُب بالعقل صالح، وإن كثير الحب بالجهل فاسدُ).
إذا كانت كل الأديان والعلماء والفلاسفة والمثقفين عبر تاريخ طويل في اصطفاف حميم مع الحُبِّ فمن أين نبعت في نفوس بعضنا كل هذه الكراهية؟.
عكاظ