القراءة الجادة.. تتنفس أم وشيكة الانقراض؟!
القراءة الجادة.. تتنفس أم وشيكة الانقراض؟!
زهير الحارثي
كيف ترى جيل اليوم مع المعرفة؟ للوهلة الأولى الإجابة تبدو واضحة وسهلة ولكن عندما تمعن في السؤال قليلاً تجده محيراً فعلاً وإجابته بالتأكيد لن تغادر دائرة الحيرة. حالة الثقافة عند العرب حديث يتطارحه مثقفونا العرب كما هي عادتهم في البحث عن الجدلي والمختلف والمثير، فمنهم من يتهم الثورة المعلوماتية بأنها ساهمت في تجهيل المجتمعات وتكريس الأسلوب الاستهلاكي للمعرفة السطحية، ومنهم من يرى أن الخلل يكمن في العقلية العربية مقارناً ممارساتنا بسلوك الشعوب الغربية، التي يصرّ صاحبنا أنها استفادت من التحولات فوظّفتها للعلوم والمعرفة. نقاش يدفعني إلى تعزيز قناعاتي حول المعرفة وتعاطي الجيل الحالي مع الثقافة وعوالمها.
لم يعد سراً تراجع القراءة العميقة الرصينة، فقد خفت توهج قراءة الكتاب الورقي وتدهورت الذائقة الثقافية.
شتان ما بين القراءة الجادة الرصينة العميقة وبين القراءة السطحية الضوئية السريعة التي خرجت بها علينا ثقافة السوشيال ميديا. بعبارة أخرى لا وجه للمقارنة في عملية تثقيف الذات بين رواد الأمس الكبار ومثقفي اليوم. نعيش حالة عزوف عن التأمل الجاد والاشتغال بالكتب. أولئك الأساتذة والقامات خرجوا ونهلوا من أمّهات الكتب ورحم المكتبات العريقة بغبارها وتقشفها وروائحها العتيقة ومضامينها الثرية. كانت لديهم إرادة فذة في تشرب المعرفة والبحث عنها بشغف فعانوا وكابدوا ونزفوا عرقاً ودماً فكانت ثقافتهم موسوعية وثرية وعميقة ومتنوعة. في حين أن مثقفي اليوم يمتلكون المعلومة ويحصلون عليها بدون عناء، وبعضهم يفتقد إلى كثير وكثير حين مقارنته بأولئك الكبار، خصوصاً في قدرة التحليل والاستيعاب والربط والتعليل.
رحل أبرز مفكري العرب ولم يدركوا ما جرى ويجري في عالمنا من متغيرات مهولة وسيولة أحداث عمّت أماكن متعددة في عالمنا العربي، ولو شهدوا شيئاً من مجرياتها لتأثرت نتاجاتهم وطروحاتهم. كانت جهودهم ترنو لإعادة توهج حضارتنا، فطرحوا حلولاً للوصول إلى النهضة. ثمة مشروعات فكرية سعت للتنوير، وقامات أثرت الساحة. كان منهم من ينادي باستيعاب الفارق المهول بين العرب والغرب من حيث المسافة التاريخية وكيفية استيعابها، وشددوا على أن خريطة الطريق لا بد أن تكون متزامنة بتنوير فكري وتطوير تقني وإصلاح للخطاب الديني؛ ليكون متسقاً مع التحولات المجتمعية، مدللين بذلك على مسار النهضة الأوروبية التي استطاعت أن تنتقل للديمقراطية بالتمرد على عقلية القرون الوسطى آنذاك. في حين أن آخرين يعتقدون أن المعضلة تكمن في تكوين العقل العربي وبنيته.
التقدم المعلوماتي والعلمي والتقني الذي يشهده العالم اليوم لم تعشه الأجيال الماضية، وما زال البعض يرى أنه رأس قمة الجليد وبداية مسار طويل ومذهل من علوم المستقبل وتقنية الإنسان الآلي والحاسوب وتقنيات النانو والتقنية الحيوية. تزامن مع هذا التفجر المعلوماتي عزوف الشباب عن القراءة، فكان إحدى بصماته أن المكتبات العامة بدأت تتلاشى واختفت منابر الثقافة وهيمنت الأمية الفكرية بوجود مغريات التسويق والترفيه والتشويق، في ظل شعور بانقراض وشيك لقراءة الكتب وعدم وجود محفزات بالعودة إلى عالم المتعة القديم.
الجيل الجديد لم يعد له أي اهتمام واضح بالثقافة والقراءة والمطالعة إلا ما ندر. تستشف ذلك من خلال عدم قدرته على التفكير العميق والتحليل الموضوعي، ومن هشاشة التعبير وقلة المحصول اللغوي وعدم القدرة على فهم ما يجري وصعوبة ربط الأحداث بخلفياتها التاريخية، ومع ذلك تجده بارعاً ومتمكناً في التعاطي مع التقنية والتكنولوجيا ومتابعاً لعالمها الجديد. التوجهات الجديدة بمغرياتها وجاذبيتها سلبت الشباب من الكتاب إلى وسائل التكنولوجيا المعلوماتية ووسائط التواصل الاجتماعي. لم يعد يحافظ على القراءة الجادة إلا من تعود على أجوائها وعوالمها قبل الغزو المعلوماتي والتقني الذي قلب المعادلة رأساً على عقب. هناك أزمة قراءة وثقافة، وقد باتت ملموسة، وتعكس معاناة الشباب العربي تحديداً، خصوصاً أن المجتمع الذي ينتمي إليه تعرض لسيل من الوسائل التكنولوجية المعلوماتية المتنوعة ومغريات مواقع التواصل الاجتماعي، ما جعل المنافسة غير متكافئة إن أردنا الحقيقة، وبالتالي لم يعد بمقدور عادة المطالعة والقراءة الوقوف أمام ألوان الإثارة والتشويق والإغراء التي حفلت بها تلك الوسائل التي لا تعرف التثاؤب.
البعض يرى أن جيل الإعلام الجديد لم يتأثر بما طرحه أولئك الكبار، ولم يأخذ مما نهل منه الجيلان السابقان؛ أصحاب التحرير الوطني وأبناء المد القومي. وقد يثور تساؤل هنا عن قدرة تلك الطروحات الفكرية في شحذ الشاب العربي ودفعه للإبداع طالما أن جيله الذي ينتمي إليه لا يعرف القراءة الجادة.
وتبقى الأسئلة المشروعة، وهي مفارقة بكل تأكيد؛ هل يستوعب شباب الديجيتال كل ما صنعه الرواد والكبار في ظل سهولة توفر المعلومة؟ وهل باستطاعة الجيل الحالي مواكبة الجديد المدهش، في الوقت الذي يغرف فيه من ماعون القراءة؟ وهل بمقدور القراءة الرصينة خلق جيل قادر على المواءمة بين علوم المستقبل واكتساب القدرة الفكرية والثقافية، وبما يحقق الاستفادة من مبتكرات العقل البشري ويُهذب جموحه العلمي؟ أسئلة كبيرة ومريرة لا نملك إجابتها.
الشرق الأوسط
زهير الحارثي
كيف ترى جيل اليوم مع المعرفة؟ للوهلة الأولى الإجابة تبدو واضحة وسهلة ولكن عندما تمعن في السؤال قليلاً تجده محيراً فعلاً وإجابته بالتأكيد لن تغادر دائرة الحيرة. حالة الثقافة عند العرب حديث يتطارحه مثقفونا العرب كما هي عادتهم في البحث عن الجدلي والمختلف والمثير، فمنهم من يتهم الثورة المعلوماتية بأنها ساهمت في تجهيل المجتمعات وتكريس الأسلوب الاستهلاكي للمعرفة السطحية، ومنهم من يرى أن الخلل يكمن في العقلية العربية مقارناً ممارساتنا بسلوك الشعوب الغربية، التي يصرّ صاحبنا أنها استفادت من التحولات فوظّفتها للعلوم والمعرفة. نقاش يدفعني إلى تعزيز قناعاتي حول المعرفة وتعاطي الجيل الحالي مع الثقافة وعوالمها.
لم يعد سراً تراجع القراءة العميقة الرصينة، فقد خفت توهج قراءة الكتاب الورقي وتدهورت الذائقة الثقافية.
شتان ما بين القراءة الجادة الرصينة العميقة وبين القراءة السطحية الضوئية السريعة التي خرجت بها علينا ثقافة السوشيال ميديا. بعبارة أخرى لا وجه للمقارنة في عملية تثقيف الذات بين رواد الأمس الكبار ومثقفي اليوم. نعيش حالة عزوف عن التأمل الجاد والاشتغال بالكتب. أولئك الأساتذة والقامات خرجوا ونهلوا من أمّهات الكتب ورحم المكتبات العريقة بغبارها وتقشفها وروائحها العتيقة ومضامينها الثرية. كانت لديهم إرادة فذة في تشرب المعرفة والبحث عنها بشغف فعانوا وكابدوا ونزفوا عرقاً ودماً فكانت ثقافتهم موسوعية وثرية وعميقة ومتنوعة. في حين أن مثقفي اليوم يمتلكون المعلومة ويحصلون عليها بدون عناء، وبعضهم يفتقد إلى كثير وكثير حين مقارنته بأولئك الكبار، خصوصاً في قدرة التحليل والاستيعاب والربط والتعليل.
رحل أبرز مفكري العرب ولم يدركوا ما جرى ويجري في عالمنا من متغيرات مهولة وسيولة أحداث عمّت أماكن متعددة في عالمنا العربي، ولو شهدوا شيئاً من مجرياتها لتأثرت نتاجاتهم وطروحاتهم. كانت جهودهم ترنو لإعادة توهج حضارتنا، فطرحوا حلولاً للوصول إلى النهضة. ثمة مشروعات فكرية سعت للتنوير، وقامات أثرت الساحة. كان منهم من ينادي باستيعاب الفارق المهول بين العرب والغرب من حيث المسافة التاريخية وكيفية استيعابها، وشددوا على أن خريطة الطريق لا بد أن تكون متزامنة بتنوير فكري وتطوير تقني وإصلاح للخطاب الديني؛ ليكون متسقاً مع التحولات المجتمعية، مدللين بذلك على مسار النهضة الأوروبية التي استطاعت أن تنتقل للديمقراطية بالتمرد على عقلية القرون الوسطى آنذاك. في حين أن آخرين يعتقدون أن المعضلة تكمن في تكوين العقل العربي وبنيته.
التقدم المعلوماتي والعلمي والتقني الذي يشهده العالم اليوم لم تعشه الأجيال الماضية، وما زال البعض يرى أنه رأس قمة الجليد وبداية مسار طويل ومذهل من علوم المستقبل وتقنية الإنسان الآلي والحاسوب وتقنيات النانو والتقنية الحيوية. تزامن مع هذا التفجر المعلوماتي عزوف الشباب عن القراءة، فكان إحدى بصماته أن المكتبات العامة بدأت تتلاشى واختفت منابر الثقافة وهيمنت الأمية الفكرية بوجود مغريات التسويق والترفيه والتشويق، في ظل شعور بانقراض وشيك لقراءة الكتب وعدم وجود محفزات بالعودة إلى عالم المتعة القديم.
الجيل الجديد لم يعد له أي اهتمام واضح بالثقافة والقراءة والمطالعة إلا ما ندر. تستشف ذلك من خلال عدم قدرته على التفكير العميق والتحليل الموضوعي، ومن هشاشة التعبير وقلة المحصول اللغوي وعدم القدرة على فهم ما يجري وصعوبة ربط الأحداث بخلفياتها التاريخية، ومع ذلك تجده بارعاً ومتمكناً في التعاطي مع التقنية والتكنولوجيا ومتابعاً لعالمها الجديد. التوجهات الجديدة بمغرياتها وجاذبيتها سلبت الشباب من الكتاب إلى وسائل التكنولوجيا المعلوماتية ووسائط التواصل الاجتماعي. لم يعد يحافظ على القراءة الجادة إلا من تعود على أجوائها وعوالمها قبل الغزو المعلوماتي والتقني الذي قلب المعادلة رأساً على عقب. هناك أزمة قراءة وثقافة، وقد باتت ملموسة، وتعكس معاناة الشباب العربي تحديداً، خصوصاً أن المجتمع الذي ينتمي إليه تعرض لسيل من الوسائل التكنولوجية المعلوماتية المتنوعة ومغريات مواقع التواصل الاجتماعي، ما جعل المنافسة غير متكافئة إن أردنا الحقيقة، وبالتالي لم يعد بمقدور عادة المطالعة والقراءة الوقوف أمام ألوان الإثارة والتشويق والإغراء التي حفلت بها تلك الوسائل التي لا تعرف التثاؤب.
البعض يرى أن جيل الإعلام الجديد لم يتأثر بما طرحه أولئك الكبار، ولم يأخذ مما نهل منه الجيلان السابقان؛ أصحاب التحرير الوطني وأبناء المد القومي. وقد يثور تساؤل هنا عن قدرة تلك الطروحات الفكرية في شحذ الشاب العربي ودفعه للإبداع طالما أن جيله الذي ينتمي إليه لا يعرف القراءة الجادة.
وتبقى الأسئلة المشروعة، وهي مفارقة بكل تأكيد؛ هل يستوعب شباب الديجيتال كل ما صنعه الرواد والكبار في ظل سهولة توفر المعلومة؟ وهل باستطاعة الجيل الحالي مواكبة الجديد المدهش، في الوقت الذي يغرف فيه من ماعون القراءة؟ وهل بمقدور القراءة الرصينة خلق جيل قادر على المواءمة بين علوم المستقبل واكتساب القدرة الفكرية والثقافية، وبما يحقق الاستفادة من مبتكرات العقل البشري ويُهذب جموحه العلمي؟ أسئلة كبيرة ومريرة لا نملك إجابتها.
الشرق الأوسط