ثقافة الدلال
ثقافة الدلال
د. حمد بن عبدالله اللحيدان
في الحقيقة هذا العنوان هو عنوان كتاب جديد من تأليف الأستاذ الدكتور محمد بن شحات الخطيب إهداني إياه الأسبوع الماضي، وفي الحقيقة فقد بذل المؤلف فيه وقتاً وجهداً واشبعه بحثاً واستقصاء حتى غطى ثقافة الدلال من جميع جوانبها.. ولا شك ان ذلك يعتبر اضافة للمكتبة العربية في موضوع لم يحظ بكثير من البحث والتقصي والاهتمام في المجتمع العربي من قبل. وعلى العموم فإن الكتاب يقع في (١٨٣) صفحة ويحتوي على أربعة فصول تشمل الدلال المفرط وحالة اللاشبع واستفتِ قلبك وثقافة الدلال وعلاقتها بالتواصل الأسري. وهو مفيد للقارئ من حيث انه يسلط الضوء على ملامح وأسباب ومخرجات الدلال وإرهاصاته.
وعلى العموم للدلال معان كثيرة أشار المؤلف إليها وحدد الدلال الذي يقصده بأنه ذلك الذي يعنى بالترفيه والتساهل بالتربية. هذا وقد أشار إلى أن ثقافة الدلال منتشرة في كل البيئات والمجتمعات البشرية وبالأخص تلك المترفة منها وذلك بشكل يصعب معه إعادة تأهيل المدللين ليكونوا أعضاء منتجين وفعالين في مجتمعاتهم وبالطبع هذه هي نتيجة الدلال المفرط الذي يحوّل المدلل إلى مسخ يزداد سوءاً مع مرور الأيام وان مشكلة المترَف في العالم ان حركته يقودها فكر ينشد توظيف الترف وتسخيره لخدمة المآرب غير العادية بأنواعها وأشكالها وأحجامها المختلفة وذلك مثل إقامة الفوارق الطبقية بين الناس، واستبعاد الأقل حظاً واستغلالهم وسوء التعامل معهم ، واستباحة الفضيلة والفضلاء وجرهم إلى الخطأ وإشاعة الكذب والنفاق والرياء والسمعة والكبرياء والخيلاء والوقوع في الرذائل وامتهان العقائد والثوابت.
وعلى الرغم من التقدم التقني الذي نشهده هذه الأيام إلا ان هموم الحياة تزداد تعقيداً وكثرة ولم نستفد كثيراً من أساليب التواصل والتفاعل الإنساني الحديثة. ولا شك أن ذلك نوع من أنواع الاعتلال الثقافي والذي من أهم اسبابه عجز الثقافة عن التطور الذاتي. أما الصحة الثقافية فإنها تعني جودة الحياة والتي من أهم مقومات إشباع الحاجات الإنسانية العضوية وغير العضوية. وطرق إشباع هذه الحاجات تعتبر مسؤولة إلى حد كبير عن تشكيل الشخصية الإنسانية وثقافة المجتمع بما في ذلك ثقافة الدلال. وثقافة الدلال تساعد وتساهم في بناء الشخصية الاستهوائية التي تتميز بتفخيم الذات والتعبير المبالغ فيه عن المشاعر والقابلة للايحاء والتأثر السهل بالآخرين، وسطحية المشاعر وهشاشتها والانغماس في الذات ، وعدم وضع اعتبار للآخرين وحب التقدير دون عمل مستحق لهذا التقدير وحب الإشادة والنشاطات التي يكون فيها مركز الانتباه بالاضافة إلى السلوك الابتزازي المستمر للوصول إلى المنافع الذاتية بغض النظر عن الوسيلة. لذلك يعتبر الدلال المفرط نوعا من أنواع التطرف ، من هذا المنطلق يعتبر المحافظون من الناس من أسباب البقاء والديمومة بينما يعتبر المتطرفون من أسباب الزوال والاندثار.. وفي الأصل يولد جميع الناس على الفطرة، أما سلوكهم في الحياة فيتم طبقاً للتربية والتعويد لذلك فإن الإنسان المدلل في الغالب تتعارض أقواله وأفعاله مع الفطرة السليمة وبالتالي فهو عدو لها. ومن كان عدوا للفطرة كان عدوا للناس، هذا وقد حفل القرآن الكريم والسنّة المطهرة ومصادر التربية الإسلامية بزخم وافر من التوجيه الشرعي المتعلق بتربية الأبناء والبنات على الطريق المستقيم.
إن ثقافة الدلال كانت وما زالت وسوف تظل قائمة وقد تسببت ثقافة الدلال المفرط بوقوع كثير من الضحايا وأوصدت الأبواب في وجوه كثير من أسباب الخير والفضيلة؛ لذلك فإن اسوأ شيء في الحياة ان يقوم الآباء والأمهات بتدليل أبنائهم تدليلاً مفرطاً يقودهم إلى الهاوية والسبب ان قيم الحياة عند المدللين ان يحيوا ويموت الآخرون ، وأن يجمعوا وينفد ما عند غيرهم! وهذا يعارض الناموس الرباني. نعم ليس كل الدلال مذموما فالدلال الرشيد مهم أحياناً فهو يمثل جزءا من الحنان وربما كانت له حسنات حيث انه قد يشكل سبباً من أسباب التفوق لأن العديد من ألوان التطور الاجتماعي والذوق الرفيع وفنون الثقافة الجديدة يساعد الدلال المنضبط على معرفتها وإحلالها مكان بعض الممارسات الثقافية القديمة البالية لذلك يحتاج كل إنسان إلى درجة معينة من الدلال وهذه الدرجة يجب أن تكون مقننة وتراعي ظروف الزمان والمكان كما تحتاج إلى المعرفة والمهارة والتوجيه الصحيح حتى لا تصبح تلك الممارسة كارثية. أما الدلال المفرط فهو ينتج عن أن كثيرا من الآباء والأمهات المعاصرين يضعفون تماماً أمام أبنائهم أو بناتهم إما بدافع العاطفة أو الجهل أو الكبرياء أو المنافسة غير السوية أو غير ذلك من الأسباب مما ينتج عنه عدم مقدرة هؤلاء على ضبط وتيرة تصرفات ابنائهم عندما يشبون عن الطوق.
أما عند المقارنة بين أساليب التنشئة القديمة وأساليب التنشئة الحديثة للأبناء والبنات نجد أن لكل منهما ايجابيات وسلبيات. والحصيف من الآباء والأمهات من يأخذ من ايجابياتهما ويبتعد عن سلبياتهما. ولعل من أبرز السلبيات التي تكتنف تنشئة الأولاد في العصر الحاضر أن كثيرا من الأبناء لا ينشأون في حضن الأسرة التقليدية على الرغم من أنهم من الناحية الفيزيائية متواجدون بينهم؛ وذلك لأن ثقافة العولمة قد احتضنتهم وهي التي مدت أذرعتها لتحتضن حتى الآباء والأمهات برغبة منهم أو رغماً عنهم ناهيك عن غياب الدور التربوي للآباء والأمهات الذين أوكلوا تلك المهمة المصيرية إلى الخادمات والسائقين الذين ربما يلبون الرغبات ولا يحسنون التوجيه في أحسن الظروف ؛ لذلك نشاهد كثيرا من التصرفات غير السوية لبعض الشباب سواء كان ذلك في المظهر أو الممارسة مما لا يمت بصلة للمقومات الايجابية للمجتمع الذي يفترض أنهم نشأوا فيه ويمثلونه.
ومن ناحية أخرى نجد أنه على الرغم من أن منح الثقة للأبناء والبنات يعتبر مطلبا تربويا أساسيا إلا أن منح الثقة المطلقة مع غياب المتابعة والمراقبة والتقويم قد يجعلهم يتصرفون بعشوائية مما يوقعهم في زلات لا تغتفر قد تتداعى ويدفع ثمنها الآباء والأمهات وربما المجتمع.. لذلك فإن منح الثقة المطلقة دون ضوابط هو نوع من أنواع الدلال المفرط الذي يجعل الأولاد لا يطيقون المساءلة أو الانضباط لأنهم تعوّدوا اللعب وفقاً لأهوائهم ورغباتهم وبالتالي ينشأون وفق مبادئ لا تخدمهم بل تضرهم عاجلاً أو آجلاً.
إن الدلال المفرط يؤدي إلى عدم قدرة الوالدين على الثبات في المعاملة فالمدلل له مطالب كثيرة ومتعارضة ولا تنتهي ومزاجه حاد ولحوح لذلك تجد الوالدين يغيران من أساليب استجابتهما لتلك المطالب بما يلبي رغبة الابن لذلك تجدهما أحياناً يتتبعان أساليب حكيمة وأحياناً لا تكون حكيمة ومرة تعالَج الأمور بشكل حسن ومرة أخرى بشكل غير حسن وأحياناً تعالَج الأمور بشكل عشوائي ومثل هذه التناقضات تشكل معضلة تربوية كبرى بسبب التذبذب بين الفعل وردة الفعل.
إن الأبناء والبنات لا يدللون أنفسهم وإنما يكتسبون سمات الدلال من الأساليب التي يتم التعامل بها معهم. والدلال المفرط لا يتم اكتسابه خلال فترة زمنية وجيزة وإنما يتم ذلك خلال فترات زمنية طويلة تؤدي إلى تراكم خبرات تلك التصرفات. لذلك فإن معالجة وإزالة سلوك الدلال المفرط لا يمكن أن يتما بصورة فورية وإنما يستغرق ذلك وقتلاً طويلاً من التدريب وإعادة التأهيل ؛ لذلك فإن الخوف الحقيقي يجب أن ينصب على نتائج الدلال المفرط التي جعلت البنات يكثرن من الخروج والتفسح في الطرقات والأماكن غير المأمونة ولقاء رفقاء السوء والتي جعلت الأولاد ، بمساعدة ظروف المدنية الحديثة التي ساعدت على اتساع رقعة ثقافة الدلال ، لا يتمتعون بالانضباط.
إن الدلال يجسد معظم أسباب حب التملك والعكس صحيح فالإنسان كثير الاستحواذ هو إنسان يعبر عن حاجاته اللامتناهية وعن حاجاته التي ليس بحاجة فعلية لها فالمدلل يفرض رؤاه في محافل العلم وعلى أصحاب العلم. وكذلك في التجارة والأمور الحياتية الأخرى فهو يحاول أن يساوم على كل شيء بما في ذلك الشأن الأخلاقي والروحي دون رادع من قيم أو قوانين وهو بذلك يرسخ ثقافة الاستحواذ بين بني جنسه ؛ لذلك فإن الثقافة الجديدة لبعض بني البشر أصبحت مستثيرة لنهم الاستحواذ. فالناس إلا قليل منهم يعيشون من أجل الاستحواذ وفي سبيل ذلك فهم على استعداد لأن يسرقوا ويغشوا ويتعالوا على الآخرين وأن يهجر بعضهم بعضاً وأن يسفكوا الدماء ولهذا حلت الحياة الاستحلالية لكل أنواع الخبث والبغض والعداء في المجتمعات المعاصرة بنسب متفاوتة محلياً واقليمياً ودولياً ليس هذا فحسب بل أصبح لثقافة الاستحواذ التي يمثل الدلال المفرط بعض ملامحها مؤسسات ترعاها وتعمل بأساليب الاتصال الحديثة على تعميق تلك الثقافة ونشرها.
نعم إن كتاب ثقافة الدلال يحمل كثيراً من الرؤى والتفاصيل والممارسات والأمثلة والمخرجات والإرهاصات والحلول التي تتعلق بالدلال المفرط.
والله المستعان..
المصدر: صحيفة الرياض