الضحك واقتصاد الجهد النفسي
الضحك واقتصاد الجهد النفسي
د. ملحة عبدالله
عندما تبدأ بالضحك، فلا يقتصر دوره فقط على تخفيف الأعباء التي تصب على العقل، بل يحفز أيضاً على حدوث تغيرات جسدية لديك، إذ إن الضحك يحفز العديد من الأعضاء بدءاً بتحسين الابتسامة واستنشاق الهواء الغني بالأكسجين..
إن صناعة الضحك هي جهد إنساني، يعتمد دون غيره من الفنون الأدائية على إعمال العقل والمقارنة الذهنية التي تؤدي إلى كسر التوقع مما يستدر الضحك.
والضحك له عاملان مهمان، الأول: هو عن طريق التفاعل البايولوجي كـ"الزغزغة" على سبيل المثال والتي تعتمد على مراكز الإحساس في مناطق الجسم، وتختلف من شخص لآخر وهذا من وجهة نظرنا هو ضحك لا عائد له لأنه لا يعتمد على العمليات الذهنية وإعمال العقل!.
أما النوع الآخر من الضحك فهو ما سبق وذكرنا من عملية ذهنية معتمدة على الوعي التام، أو قل الحضور الذهني ذو العمليات المعرفية التي تنشط أثناء التلقي معتمدة على ما لديها من مدخلات سابقة تأخذ الرسالة ثم تتعامل معها ذهنيا بنوع من المقارنة مع المحتوى الذهني المسبق.!
والضحك هنا يعتمد على كثير من الأدوات التي تنتج هذه التفاعلات الذهنية وعلى سبيل المثال الضحك على الموقف حينما نجد إنسانا في موقف يتناقض وتلك التوقعات التي نتوقعها ومنه يتفجر الضحك، أو الضحك على تناقض الشخصية مع أفعالها، وعلى سبيل المثال حينما نرى شخصية رومولوس العظيم ذي الهيبة والوقار وهو آخر ملوك الإمبراطورية الرومانية كيف جعله الكاتب (دورينمات) في مسرحية رومولوس العظيم يدخل حظيرة الدجاج وينثر لهم الحبوب ويغني ويرقص لها، هذا التناقض مع الشخصية وما تفعله يلجأ له الكتاب لاستدرار الضحك، ومن هنا يحدث بذل نفسي أثناء العمليات الذهنية، هذا البذل هو نوع من تفريغ الطاقة والشحنات السالبة المحملة على البعد النفسي لدي السامعين أو المشاهدين، ومثال آخر عندما نجد شخصية عظيمة يقف لها الناس حينما تدخل القاعة احتراما وتقديرا ومهابة ووقارا، لكننا نجد فأرا صغيرا يجري خلفها ممن يعمل على تلك المقارنة بين الشخصية وما يجب أن تكون عليه وهذه إحدى العمليات الذهنية الباعثة للضحك.
وصناعة الضحك من أصعب أنواع الإبداع، لكن العرب قد برعوا في إتقانها طواعية وبلا جهد، لكن هذا الفن وهذه الصناعة تؤتى كموهبة فطرية لدى شخص دون غيره.
وللضحك خدماته التي للنفس البشرية وإحداها البذل العقلي والمقارنة بين الواقع والتصورات الذهنية، أذكر أنني كنت أتحدث مع سيدة عجوز دأبت على الضحك كل يوم، بل وإضحاك مجالسيها حتى أن مجلسها يعج بالبشر عصر كل يوم ليريحوا أنفسهم بالضحك مما يثبت ذلك العائد النفسي الذي يستجلونه منها بعد مغادرة مجلسها، وهي سيدة أمية لم تتعلم فن صناعة الضحك، وحينما سألتها عن هذا العطاء الرباني أجابتني أنه لا يمكن أن يمر عليها يوم من دون أن تضحك ضحكا عميقا تدمع منه العين وتنفرج به الأسارير، فتقول لي إنه ذات يوم لم تجد ما يضحكها وقد ضجت نفسها من عدم وجود ما يجعل مجلسها سعيدا ضاحكا كعادته، وعلى هذا وضعت قطعة كبيرة من القماش واستدعت عددا من النساء الجادات من المترددين على مجلسها وطلبت منهن رفع تلك القطعة من القماش وجعلت جائزة مالية لمن تجرؤ على رفعها من مكانها لأن في ذلك أمر لا يعلمه سواها وأجزلت الجائزة لصاحبة الإقدام على الفعل، ومن هنا تناوبت النساء على الاقتراب من الثوب ثم الهروب بعيدا قبل لمسه خوفا من تلك المفاجأة التي قد تحدث، لأن وجود جائزة كبيرة - من وجهة نظرهن - لا تعطى إلا لأمر بالغ الخطورة، هذا التناوب بين الإقدام والتراجع في الفعل وصرخات النسوة المتعالية كلما اقتربن أو ابتعدن جعل العجوز ومجلسها يضج بالضحك لوقت ليس بالقصير، وحين أخذت العجوز حقها من الضحك وحصلت على الحاجة الكافية منه قامت هي من مكانها ورفعت قطعة الثوب من مكانها بكل بساطة إذ لا يوجد أي شيء تحته أو فوقه أو به سوى تلك المفاجأة - من كسر التوقع - حيث لا شيء هناك سوى مقلب ضاحك يسعد المجلس ويفضي إلى تبديد الجهد النفسي الذي يثقل النفس ويجثم على الوجدان جراء يوم ثقيل وقد أطلق عليه بعض الفلاسفة أنه محاولة لقهر القهر، ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي الحائِز على نوبل للآداب هنري برجسون (1859 - 1941): "لا مضحك إلا ما هو إنساني، والضحك هو محاولة قهر القهر، وهتاف الصامتين، إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه" ولعل للمسكوت الحظ الأوفر من مستدرات الضحك وخاصة في عالمنا العربي.
إن هذا الجهد العقلي وما يبذله من طاقة، يتسرب إلى الوجدان والعاطفة بنوع من الرضا النفسي، هذا الجهد الخفي والمحبب للنفس تأثيره على الصحة النفسية التي تمتد بدورها إلى المجتمعية؛ فقد أكدت منظمة الصحة العالمية أن الضحك الجيد له آثار قصيرة المدى وبعيدة المدى، فتقول: "عندما تبدأ بالضحك، فلا يقتصر دوره فقط على تخفيف الأعباء التي تصب على العقل، بل يحفز أيضًا على حدوث تغيرات جسدية لديك إذ إن الضحك يحفز العديد من الأعضاء بدءاً بتحسين الابتسامة واستنشاق الهواء الغني بالأكسجين، ثم تحفز القلب، والرئتين والعضلات، وتزيد الإندورفين (المسكنات الطبيعية) التي يقوم الدماغ بإطلاقها".
الرياض
د. ملحة عبدالله
عندما تبدأ بالضحك، فلا يقتصر دوره فقط على تخفيف الأعباء التي تصب على العقل، بل يحفز أيضاً على حدوث تغيرات جسدية لديك، إذ إن الضحك يحفز العديد من الأعضاء بدءاً بتحسين الابتسامة واستنشاق الهواء الغني بالأكسجين..
إن صناعة الضحك هي جهد إنساني، يعتمد دون غيره من الفنون الأدائية على إعمال العقل والمقارنة الذهنية التي تؤدي إلى كسر التوقع مما يستدر الضحك.
والضحك له عاملان مهمان، الأول: هو عن طريق التفاعل البايولوجي كـ"الزغزغة" على سبيل المثال والتي تعتمد على مراكز الإحساس في مناطق الجسم، وتختلف من شخص لآخر وهذا من وجهة نظرنا هو ضحك لا عائد له لأنه لا يعتمد على العمليات الذهنية وإعمال العقل!.
أما النوع الآخر من الضحك فهو ما سبق وذكرنا من عملية ذهنية معتمدة على الوعي التام، أو قل الحضور الذهني ذو العمليات المعرفية التي تنشط أثناء التلقي معتمدة على ما لديها من مدخلات سابقة تأخذ الرسالة ثم تتعامل معها ذهنيا بنوع من المقارنة مع المحتوى الذهني المسبق.!
والضحك هنا يعتمد على كثير من الأدوات التي تنتج هذه التفاعلات الذهنية وعلى سبيل المثال الضحك على الموقف حينما نجد إنسانا في موقف يتناقض وتلك التوقعات التي نتوقعها ومنه يتفجر الضحك، أو الضحك على تناقض الشخصية مع أفعالها، وعلى سبيل المثال حينما نرى شخصية رومولوس العظيم ذي الهيبة والوقار وهو آخر ملوك الإمبراطورية الرومانية كيف جعله الكاتب (دورينمات) في مسرحية رومولوس العظيم يدخل حظيرة الدجاج وينثر لهم الحبوب ويغني ويرقص لها، هذا التناقض مع الشخصية وما تفعله يلجأ له الكتاب لاستدرار الضحك، ومن هنا يحدث بذل نفسي أثناء العمليات الذهنية، هذا البذل هو نوع من تفريغ الطاقة والشحنات السالبة المحملة على البعد النفسي لدي السامعين أو المشاهدين، ومثال آخر عندما نجد شخصية عظيمة يقف لها الناس حينما تدخل القاعة احتراما وتقديرا ومهابة ووقارا، لكننا نجد فأرا صغيرا يجري خلفها ممن يعمل على تلك المقارنة بين الشخصية وما يجب أن تكون عليه وهذه إحدى العمليات الذهنية الباعثة للضحك.
وصناعة الضحك من أصعب أنواع الإبداع، لكن العرب قد برعوا في إتقانها طواعية وبلا جهد، لكن هذا الفن وهذه الصناعة تؤتى كموهبة فطرية لدى شخص دون غيره.
وللضحك خدماته التي للنفس البشرية وإحداها البذل العقلي والمقارنة بين الواقع والتصورات الذهنية، أذكر أنني كنت أتحدث مع سيدة عجوز دأبت على الضحك كل يوم، بل وإضحاك مجالسيها حتى أن مجلسها يعج بالبشر عصر كل يوم ليريحوا أنفسهم بالضحك مما يثبت ذلك العائد النفسي الذي يستجلونه منها بعد مغادرة مجلسها، وهي سيدة أمية لم تتعلم فن صناعة الضحك، وحينما سألتها عن هذا العطاء الرباني أجابتني أنه لا يمكن أن يمر عليها يوم من دون أن تضحك ضحكا عميقا تدمع منه العين وتنفرج به الأسارير، فتقول لي إنه ذات يوم لم تجد ما يضحكها وقد ضجت نفسها من عدم وجود ما يجعل مجلسها سعيدا ضاحكا كعادته، وعلى هذا وضعت قطعة كبيرة من القماش واستدعت عددا من النساء الجادات من المترددين على مجلسها وطلبت منهن رفع تلك القطعة من القماش وجعلت جائزة مالية لمن تجرؤ على رفعها من مكانها لأن في ذلك أمر لا يعلمه سواها وأجزلت الجائزة لصاحبة الإقدام على الفعل، ومن هنا تناوبت النساء على الاقتراب من الثوب ثم الهروب بعيدا قبل لمسه خوفا من تلك المفاجأة التي قد تحدث، لأن وجود جائزة كبيرة - من وجهة نظرهن - لا تعطى إلا لأمر بالغ الخطورة، هذا التناوب بين الإقدام والتراجع في الفعل وصرخات النسوة المتعالية كلما اقتربن أو ابتعدن جعل العجوز ومجلسها يضج بالضحك لوقت ليس بالقصير، وحين أخذت العجوز حقها من الضحك وحصلت على الحاجة الكافية منه قامت هي من مكانها ورفعت قطعة الثوب من مكانها بكل بساطة إذ لا يوجد أي شيء تحته أو فوقه أو به سوى تلك المفاجأة - من كسر التوقع - حيث لا شيء هناك سوى مقلب ضاحك يسعد المجلس ويفضي إلى تبديد الجهد النفسي الذي يثقل النفس ويجثم على الوجدان جراء يوم ثقيل وقد أطلق عليه بعض الفلاسفة أنه محاولة لقهر القهر، ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي الحائِز على نوبل للآداب هنري برجسون (1859 - 1941): "لا مضحك إلا ما هو إنساني، والضحك هو محاولة قهر القهر، وهتاف الصامتين، إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه" ولعل للمسكوت الحظ الأوفر من مستدرات الضحك وخاصة في عالمنا العربي.
إن هذا الجهد العقلي وما يبذله من طاقة، يتسرب إلى الوجدان والعاطفة بنوع من الرضا النفسي، هذا الجهد الخفي والمحبب للنفس تأثيره على الصحة النفسية التي تمتد بدورها إلى المجتمعية؛ فقد أكدت منظمة الصحة العالمية أن الضحك الجيد له آثار قصيرة المدى وبعيدة المدى، فتقول: "عندما تبدأ بالضحك، فلا يقتصر دوره فقط على تخفيف الأعباء التي تصب على العقل، بل يحفز أيضًا على حدوث تغيرات جسدية لديك إذ إن الضحك يحفز العديد من الأعضاء بدءاً بتحسين الابتسامة واستنشاق الهواء الغني بالأكسجين، ثم تحفز القلب، والرئتين والعضلات، وتزيد الإندورفين (المسكنات الطبيعية) التي يقوم الدماغ بإطلاقها".
الرياض