«لماذا ننام؟»
«لماذا ننام؟»
د. محمّد النغيمش
حاول الزعيم الألماني النازي هتلر حرمان جنوده والطيارين من النوم، خلال غاراتهم على فرنسا وضواحيها في الحرب العالمية الثانية. فقد كان يوفر لهم مخدر «الميثامفيتامين» الذي رفع قدراتهم التحفيزية، وقلل رغبتهم في النوم وتناول الأطعمة، الأمر الذي أذهل قوات التحالف وهم يرون الألمان يكتسحون البلدان الأوروبية جواً وبراً وبحراً بلا هوادة، وصولاً إلى قلب باريس في مطلع الأربعينات.
هذا الدواء «السحري» قلب المعادلة في الحرب العالمية، وأدهش الخصوم، غير أن تكرار هذا الأمر في حياتنا اليومية، مع ارتفاع الوعي الصحي، لم يعد ممكناً. عندما تأملت كثيراً من الأبحاث والتقارير الطبية التي تتناول ضرورة ممارسة الرياضة والتغذية السليمة، أجد ما هو أهم وأخطر، وهو ضرورة أخذ قسط كاف من النوم (8 ساعات للبالغين)؛ لأن النوم ينظم كل شيء بطريقة تلقائية.
فالنوم -حسب الدراسات الرصينة- ينظم شهيتنا، ويقوي المناعة، ويرفع التركيز، ويساعد على التعلم والتذكر الجيد، ويسهم في اتخاذ قرارات وخيارات منطقية، وتنحسر بسببه مشاعر الاكتئاب والقلق. والمفارقة أن النوم باعتباره «ينظم شهيتنا للطعام» فإنه يحافظ على وزن الجسم، من خلال دفعنا لاختيار الأطعمة التي تحتاجها أجسامنا. كما أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين أخذ قسط كافٍ من النوم وحسن أداء القلب وأوعيته الدموية. فهو يخفض ضغط الدم ويُبْقي الفؤاد في صحة جيدة.
وتؤكد آلاف الدراسات أن «ما من وظيفة بيولوجية لا تستفيد من النوم»، وفق ما ذكره أستاذ علوم الأعصاب والفيزيولوجيا، ومدير مركز علوم النوم البشري في جامعة بيركلي، والأستاذ في جامعة هارفارد، في كتابه الرائع والذائع الصيت «لماذا ننام: اكتشف طاقة النوم والأحلام». وقد نجح الحارث النبهان، من دار «التنوير»، في حسن ترجمته، والتي لا تقل جمالاً عن النسخة الإنجليزية الأصلية.
هذا العالم كشف لنا أن «الأضرار الجسدية والعقلية الناجمة عن ليلة واحدة من النوم السيئ، أكبر بكثير من الأضرار الناجمة عن فترة مماثلة من الانقطاع عن الأكل أو النشاط الجسدي»، ولذا فإنه ألزم نفسه بالنوم لمدة 8 ساعات مريحة.
صحيح أن هناك من يحاول أن يحذو حذو النازيين، بحرمان أنفسهم من النوم بداعي الانضباط أو كثرة المشاغل، غير أن خطورة الحرمان من النوم تداعياتها وخيمة. ولذلك رفضت موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية قبول محاولات كسر الرقم القياسي للحرمان من النوم، بعد معرفة مخاطر ذلك. وفي أميركا يموت شخص واحد كل ساعة بسبب أخطاء مرتبطة بالإرهاق. وتشير تحقيقات حادثة جنوح ناقلة النفط «إكسون فالديز» في ألاسكا عام 1989، إلى أن قائد السفينة الثالث الذي عُهدت إليه قيادتها لم ينم أكثر من 6 ساعات خلال الـ48 ساعة الماضية، وهو ما جعله يرتكب خطأ فادحاً تسبب في تحطم الناقلة التي انسكب منها نحو عشرة ملايين إلى أربعين مليون غالون من النفط الخام، انتشر على امتداد 1300 ميل، وقتل ذلك 300 فقمة، وأكثر من 200 نسر، و20 حوتاً، علاوة على الآثار المدمرة الدائمة للبيئة.
لهذا ننام؛ لكن المشكلة ليست في النوم؛ بل في جودته، وهي أوقات محددة تبدأ بعد 90 دقيقة، شريطة عدم تعرض المرء لمنغصات مزعجة. ولا تعوض عطلة نهاية الأسبوع قصور النوم في أيام العمل العادية.
مهما ناقشنا كمختصين في الإدارة طرق الإنتاجية وتنظيم الوقت وتفاصيلها، فسنعود للنقطة الجوهرية، وهي جودة وقود يومياتنا (النوم).
حتى الأحلام التي تبدو مضيعة للوقت، هي في الواقع «عملية كيميائية عصبية تساهم في مواساة المرء»، وتخفف من أثر الذكريات الأليمة. ويروى عن نزار قباني قوله: «قبل النوم البس أجمل ما عندك، تعطر ورتب غرفتك، فبعض الذين يأتون في الحلم يستحقون حفاوة أكثر من الذين يأتون في الواقع».
الشرق الأوسط
د. محمّد النغيمش
حاول الزعيم الألماني النازي هتلر حرمان جنوده والطيارين من النوم، خلال غاراتهم على فرنسا وضواحيها في الحرب العالمية الثانية. فقد كان يوفر لهم مخدر «الميثامفيتامين» الذي رفع قدراتهم التحفيزية، وقلل رغبتهم في النوم وتناول الأطعمة، الأمر الذي أذهل قوات التحالف وهم يرون الألمان يكتسحون البلدان الأوروبية جواً وبراً وبحراً بلا هوادة، وصولاً إلى قلب باريس في مطلع الأربعينات.
هذا الدواء «السحري» قلب المعادلة في الحرب العالمية، وأدهش الخصوم، غير أن تكرار هذا الأمر في حياتنا اليومية، مع ارتفاع الوعي الصحي، لم يعد ممكناً. عندما تأملت كثيراً من الأبحاث والتقارير الطبية التي تتناول ضرورة ممارسة الرياضة والتغذية السليمة، أجد ما هو أهم وأخطر، وهو ضرورة أخذ قسط كاف من النوم (8 ساعات للبالغين)؛ لأن النوم ينظم كل شيء بطريقة تلقائية.
فالنوم -حسب الدراسات الرصينة- ينظم شهيتنا، ويقوي المناعة، ويرفع التركيز، ويساعد على التعلم والتذكر الجيد، ويسهم في اتخاذ قرارات وخيارات منطقية، وتنحسر بسببه مشاعر الاكتئاب والقلق. والمفارقة أن النوم باعتباره «ينظم شهيتنا للطعام» فإنه يحافظ على وزن الجسم، من خلال دفعنا لاختيار الأطعمة التي تحتاجها أجسامنا. كما أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين أخذ قسط كافٍ من النوم وحسن أداء القلب وأوعيته الدموية. فهو يخفض ضغط الدم ويُبْقي الفؤاد في صحة جيدة.
وتؤكد آلاف الدراسات أن «ما من وظيفة بيولوجية لا تستفيد من النوم»، وفق ما ذكره أستاذ علوم الأعصاب والفيزيولوجيا، ومدير مركز علوم النوم البشري في جامعة بيركلي، والأستاذ في جامعة هارفارد، في كتابه الرائع والذائع الصيت «لماذا ننام: اكتشف طاقة النوم والأحلام». وقد نجح الحارث النبهان، من دار «التنوير»، في حسن ترجمته، والتي لا تقل جمالاً عن النسخة الإنجليزية الأصلية.
هذا العالم كشف لنا أن «الأضرار الجسدية والعقلية الناجمة عن ليلة واحدة من النوم السيئ، أكبر بكثير من الأضرار الناجمة عن فترة مماثلة من الانقطاع عن الأكل أو النشاط الجسدي»، ولذا فإنه ألزم نفسه بالنوم لمدة 8 ساعات مريحة.
صحيح أن هناك من يحاول أن يحذو حذو النازيين، بحرمان أنفسهم من النوم بداعي الانضباط أو كثرة المشاغل، غير أن خطورة الحرمان من النوم تداعياتها وخيمة. ولذلك رفضت موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية قبول محاولات كسر الرقم القياسي للحرمان من النوم، بعد معرفة مخاطر ذلك. وفي أميركا يموت شخص واحد كل ساعة بسبب أخطاء مرتبطة بالإرهاق. وتشير تحقيقات حادثة جنوح ناقلة النفط «إكسون فالديز» في ألاسكا عام 1989، إلى أن قائد السفينة الثالث الذي عُهدت إليه قيادتها لم ينم أكثر من 6 ساعات خلال الـ48 ساعة الماضية، وهو ما جعله يرتكب خطأ فادحاً تسبب في تحطم الناقلة التي انسكب منها نحو عشرة ملايين إلى أربعين مليون غالون من النفط الخام، انتشر على امتداد 1300 ميل، وقتل ذلك 300 فقمة، وأكثر من 200 نسر، و20 حوتاً، علاوة على الآثار المدمرة الدائمة للبيئة.
لهذا ننام؛ لكن المشكلة ليست في النوم؛ بل في جودته، وهي أوقات محددة تبدأ بعد 90 دقيقة، شريطة عدم تعرض المرء لمنغصات مزعجة. ولا تعوض عطلة نهاية الأسبوع قصور النوم في أيام العمل العادية.
مهما ناقشنا كمختصين في الإدارة طرق الإنتاجية وتنظيم الوقت وتفاصيلها، فسنعود للنقطة الجوهرية، وهي جودة وقود يومياتنا (النوم).
حتى الأحلام التي تبدو مضيعة للوقت، هي في الواقع «عملية كيميائية عصبية تساهم في مواساة المرء»، وتخفف من أثر الذكريات الأليمة. ويروى عن نزار قباني قوله: «قبل النوم البس أجمل ما عندك، تعطر ورتب غرفتك، فبعض الذين يأتون في الحلم يستحقون حفاوة أكثر من الذين يأتون في الواقع».
الشرق الأوسط