حان وقت الهندسات البيئية
حان وقت الهندسات البيئية
نجيب صعب
بينما يستمر الحديث عن الحدّ من الانبعاثات الكربونية المسببة للتغيُّر المناخي وكأنه مشكلة للمستقبل، يعمل العلماء على استنباط حلول لتحدّيات بيئية تواجهنا اليوم. من هذه التحدّيات آثار ارتفاع درجات الحرارة على البنى التحتية، من طرقات وشبكات ماء وكهرباء وصرف صحّي.
ويؤكد التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ أنه، حتى لو نجح العالم في تحقيق هدف وقف معدّل ارتفاع الحرارة عند درجة ونصف الدرجة قبل نهاية القرن، فهذا المعدّل العالمي العامّ يخفي تغيُّرات موضعيّة متطرّفة، لأنه، أبعد من المعدّلات، بدأ العالم يشهد، في السنوات الأخيرة، عواصف وأعاصير وفيضانات وموجات جفاف وحرارة لم يعهدها قبلاً، من حيث حجمها وسرعة تكرارها. ويتوقّع علماء الأرصاد تفاوتاً في المعدّلات الوسطية لارتفاع الحرارة، لتصل في بعض المناطق، ومنها الشرق الأوسط، إلى أضعاف المتوسط العالمي. وفضلاً عن المتوسط والمعدّلات؛ فمن المتوقع أن تضرب موجات الحرّ المتطرّفة بلدان الشرق الأوسط بمستويات غير مسبوقة، وعلى فترات طويلة، بحيث تتجاوز الحرارة الفعلية في الصيف 50 درجة مئوية على مدى أسابيع، وصولاً إلى 60 درجة في بعض الأيام. ومن دون تدابير استباقية، ستصبح بعض البلدان غير صالحة للحياة.
درجات الحرارة المتطرّفة ستجعل من الضروري إجراء تعديلات في أنظمة السكن وشبكات الخدمات والمواصلات وأساليب الإنتاج الغذائي والرعاية الصحية. وليست الحرارة المرتفعة التحدّي الوحيد، إذ إن التغيُّرات المناخية تتسبب بسيول وفيضانات متكرّرة تحصل بصورة مباغتة، كما هي الحال في بعض الدول العربية. ومع أن الحالات المتطرفة ليست حدثاً يومياً؛ فالمهندسون لا يضعون تصاميمهم بناءً على معدّلات وسطية، بل على أساس قدرة احتمال الحالات القصوى، من وزن أو سرعة رياح أو جريان مياه أو درجة حرارة.
من المشكلات التي تواجه الدول العربية دوريّاً السيول التي تُغرِق الطرقات وتتسبب بأضرار كبيرة في المنشآت، فضلاً عن تعطيل حركة الناس والبضائع. واللافت أن بعض المسؤولين لا يتذكّرون تغيُّر المناخ إلا في هذه المناسبات؛ إذ يحمّلونه مسؤولية الكوارث الطبيعية، بقصد التملُّص من المسؤولية. صحيح أنّ التغيُّر المناخي يتسبب بتكرار وتيرة حدوث السيول والفيضانات وزيادة حدّتها، لكن المشكلة في معظم الأحيان سابقة لهذا ولا علاقة لها به؛ فهي تعود إلى تنظيم المدن والبنى التحتية غير الملائمة لطبيعة الطقس وأحواله، قبل أن تكون مشكلة مناخ.
استضافني أخيراً برنامج تلفزيوني للحديث عن الخراب الذي أحدثَتْه السيول الناجمة عن الأمطار الغزيرة في بعض المدن العربية؛ فشرحت أن المشكلة أساساً مرتبطة بالتقلُّبات الطبيعية للطقس قبل أن تكون قضية تغيُّر في المناخ، وهي غالباً نتيجة لأخطاء في تصميم المدن والطرقات والبنى التحتية. ففي معظم الحالات، أكان في الإسكندرية أو الحسكة أو عمّان أو مسقط أو دبي، ليست السيول حالة جديدة. ما تغيّر أنها كانت تضرب بحدّة كل عشر سنوات أو عشرين سنة، فصارت تأتي كلّ سنتين أو ثلاث. لكن ما يجعل أضرارها أكثر ضخامة أن الامتداد العمراني وصل إلى مناطق كانت محمية في الماضي، وفي حالات كثيرة سدّت الأبنية المجاري الطبيعية للسيول.
كما أن شبكات الصرف الصحّي وجمع المياه لم تتطوَّر لتواكب الامتداد العمراني، فبقيت «البنى التحتية» قاصرة عن تلبية احتياجات «البنى الفوقية». أما المشكلة الكبرى، فهي أن هذه الشبكات صُمّمت غالباً وفق «معدّلات» الأمطار، ولهذا فهي لا تتحمّل الحدود القصوى. والمشكلة الأخرى لفيضانات الطرقات في المدن أن شبكات الصرف، حيث وُجدت، تستقبل المياه المبتذلة ومياه الأمطار في أنابيب واحدة، مما يتسبب بهدر المياه العذبة، إلى جانب إغراق الطرقات لتجاوز القدرة الاستيعابية للشبكة. الحلّ في بلدان تعاني نقصاً حادّاً في المياه العذبة، مثل بلداننا العربية، فصل شبكة المياه المبتذلة عن مياه الأمطار. ففي حين تتطلب معالجة مياه المجارير عمليات معقّدة ومكلفة لتنقيتها وإعادة استعمالها، يتيح جمع مياه الأمطار عبر شبكة مستقلّة استخدامها للري والحاجات المنزلية بكلفة بسيطة. كما يمكن تحويل مياه الأمطار المجمّعة إلى خزانات المياه الجوفية والآبار حيث وُجدت. وتزيد الحاجة إلى هذه التدابير مع تغطية مسطّحات الأسفلت والإسمنت لمعظم المساحات في المدن، مما يمنع تسرُّب مياه الأمطار طبيعياً إلى باطن الأرض. ومن المؤشرات الواعدة أن مصر بدأت إدخال «شبكة الحصاد المطري» في برامج التطوير الحضري، وهي تجربة رائدة في المنطقة العربية.
قرأتُ تقريراً حديثاً عن تجارب بدأ تطبيقها في أستراليا لمواجهة آثار ارتفاع درجات الحرارة والفيضانات على الطرق. فالارتفاع الشديد في الحرارة يؤدي إلى ذوبان الأسفلت وتشقّقه، مما يجعله عرضة للتفكُّك والتعرية حين تتبع موجة الحرّ أمطار وانخفاض في الحرارة. ومن الأساليب الناجحة التي طوّرها المهندسون الأستراليون لمعالجة المشكلة ضخّ الهواء والماء البارد في الزفت الساخن أثناء فرشه على الطرقات، مما يساعد في تقويته وتثبيته، مع احتفاظه بالمرونة. وقد تبيّن أن الأضرار بعد موسمي الحرّ والأمطار تراجعت على نحو كبير هذه السنة في الطرقات حيث طُبّقت التقنية الجديدة. ومن الحلول التجريبية الأخرى في أستراليا إضافة قطع صغيرة من السيراميك فاتح اللون على خلطة الزفت، مما يعكس أشعّة الشمس ويخفّف من حرارة الطريق المعبّدة والمناطق المحيطة. وفي إحدى المدن الأسترالية نجم عن هذا التدبير تخفيض الحرارة بمعدّل عشر درجات في منطقة تعاني من ظاهرة «الجزيرة الحرارية»، حيث تعرقل الأبنية المرتفعة حركة تدفُّق الهواء.
ليست هذه التدابير رفاهية علمية؛ إذ إن اعتمادها يوفّر المليارات من فاتورة صيانة الطرق وتصليح الأضرار الناجمة عن ارتفاع الحرارة والسيول. ومن المتوقّع أن تتجاوز الكلفة الإضافية لصيانة الطرقات في أفريقيا وحدها 200 مليار دولار سنوياً.
معظم المنشآت والبنى التحتية في بلداننا اليوم لا تتناسب مع تقلّبات الطقس وأحوال الطبيعة الحاضرة؛ فماذا نفعل لنجعلها جاهزة للصمود أمام الآثار الحقيقية لتغيُّر المناخ؟
الشرق الأوسط
نجيب صعب
بينما يستمر الحديث عن الحدّ من الانبعاثات الكربونية المسببة للتغيُّر المناخي وكأنه مشكلة للمستقبل، يعمل العلماء على استنباط حلول لتحدّيات بيئية تواجهنا اليوم. من هذه التحدّيات آثار ارتفاع درجات الحرارة على البنى التحتية، من طرقات وشبكات ماء وكهرباء وصرف صحّي.
ويؤكد التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ أنه، حتى لو نجح العالم في تحقيق هدف وقف معدّل ارتفاع الحرارة عند درجة ونصف الدرجة قبل نهاية القرن، فهذا المعدّل العالمي العامّ يخفي تغيُّرات موضعيّة متطرّفة، لأنه، أبعد من المعدّلات، بدأ العالم يشهد، في السنوات الأخيرة، عواصف وأعاصير وفيضانات وموجات جفاف وحرارة لم يعهدها قبلاً، من حيث حجمها وسرعة تكرارها. ويتوقّع علماء الأرصاد تفاوتاً في المعدّلات الوسطية لارتفاع الحرارة، لتصل في بعض المناطق، ومنها الشرق الأوسط، إلى أضعاف المتوسط العالمي. وفضلاً عن المتوسط والمعدّلات؛ فمن المتوقع أن تضرب موجات الحرّ المتطرّفة بلدان الشرق الأوسط بمستويات غير مسبوقة، وعلى فترات طويلة، بحيث تتجاوز الحرارة الفعلية في الصيف 50 درجة مئوية على مدى أسابيع، وصولاً إلى 60 درجة في بعض الأيام. ومن دون تدابير استباقية، ستصبح بعض البلدان غير صالحة للحياة.
درجات الحرارة المتطرّفة ستجعل من الضروري إجراء تعديلات في أنظمة السكن وشبكات الخدمات والمواصلات وأساليب الإنتاج الغذائي والرعاية الصحية. وليست الحرارة المرتفعة التحدّي الوحيد، إذ إن التغيُّرات المناخية تتسبب بسيول وفيضانات متكرّرة تحصل بصورة مباغتة، كما هي الحال في بعض الدول العربية. ومع أن الحالات المتطرفة ليست حدثاً يومياً؛ فالمهندسون لا يضعون تصاميمهم بناءً على معدّلات وسطية، بل على أساس قدرة احتمال الحالات القصوى، من وزن أو سرعة رياح أو جريان مياه أو درجة حرارة.
من المشكلات التي تواجه الدول العربية دوريّاً السيول التي تُغرِق الطرقات وتتسبب بأضرار كبيرة في المنشآت، فضلاً عن تعطيل حركة الناس والبضائع. واللافت أن بعض المسؤولين لا يتذكّرون تغيُّر المناخ إلا في هذه المناسبات؛ إذ يحمّلونه مسؤولية الكوارث الطبيعية، بقصد التملُّص من المسؤولية. صحيح أنّ التغيُّر المناخي يتسبب بتكرار وتيرة حدوث السيول والفيضانات وزيادة حدّتها، لكن المشكلة في معظم الأحيان سابقة لهذا ولا علاقة لها به؛ فهي تعود إلى تنظيم المدن والبنى التحتية غير الملائمة لطبيعة الطقس وأحواله، قبل أن تكون مشكلة مناخ.
استضافني أخيراً برنامج تلفزيوني للحديث عن الخراب الذي أحدثَتْه السيول الناجمة عن الأمطار الغزيرة في بعض المدن العربية؛ فشرحت أن المشكلة أساساً مرتبطة بالتقلُّبات الطبيعية للطقس قبل أن تكون قضية تغيُّر في المناخ، وهي غالباً نتيجة لأخطاء في تصميم المدن والطرقات والبنى التحتية. ففي معظم الحالات، أكان في الإسكندرية أو الحسكة أو عمّان أو مسقط أو دبي، ليست السيول حالة جديدة. ما تغيّر أنها كانت تضرب بحدّة كل عشر سنوات أو عشرين سنة، فصارت تأتي كلّ سنتين أو ثلاث. لكن ما يجعل أضرارها أكثر ضخامة أن الامتداد العمراني وصل إلى مناطق كانت محمية في الماضي، وفي حالات كثيرة سدّت الأبنية المجاري الطبيعية للسيول.
كما أن شبكات الصرف الصحّي وجمع المياه لم تتطوَّر لتواكب الامتداد العمراني، فبقيت «البنى التحتية» قاصرة عن تلبية احتياجات «البنى الفوقية». أما المشكلة الكبرى، فهي أن هذه الشبكات صُمّمت غالباً وفق «معدّلات» الأمطار، ولهذا فهي لا تتحمّل الحدود القصوى. والمشكلة الأخرى لفيضانات الطرقات في المدن أن شبكات الصرف، حيث وُجدت، تستقبل المياه المبتذلة ومياه الأمطار في أنابيب واحدة، مما يتسبب بهدر المياه العذبة، إلى جانب إغراق الطرقات لتجاوز القدرة الاستيعابية للشبكة. الحلّ في بلدان تعاني نقصاً حادّاً في المياه العذبة، مثل بلداننا العربية، فصل شبكة المياه المبتذلة عن مياه الأمطار. ففي حين تتطلب معالجة مياه المجارير عمليات معقّدة ومكلفة لتنقيتها وإعادة استعمالها، يتيح جمع مياه الأمطار عبر شبكة مستقلّة استخدامها للري والحاجات المنزلية بكلفة بسيطة. كما يمكن تحويل مياه الأمطار المجمّعة إلى خزانات المياه الجوفية والآبار حيث وُجدت. وتزيد الحاجة إلى هذه التدابير مع تغطية مسطّحات الأسفلت والإسمنت لمعظم المساحات في المدن، مما يمنع تسرُّب مياه الأمطار طبيعياً إلى باطن الأرض. ومن المؤشرات الواعدة أن مصر بدأت إدخال «شبكة الحصاد المطري» في برامج التطوير الحضري، وهي تجربة رائدة في المنطقة العربية.
قرأتُ تقريراً حديثاً عن تجارب بدأ تطبيقها في أستراليا لمواجهة آثار ارتفاع درجات الحرارة والفيضانات على الطرق. فالارتفاع الشديد في الحرارة يؤدي إلى ذوبان الأسفلت وتشقّقه، مما يجعله عرضة للتفكُّك والتعرية حين تتبع موجة الحرّ أمطار وانخفاض في الحرارة. ومن الأساليب الناجحة التي طوّرها المهندسون الأستراليون لمعالجة المشكلة ضخّ الهواء والماء البارد في الزفت الساخن أثناء فرشه على الطرقات، مما يساعد في تقويته وتثبيته، مع احتفاظه بالمرونة. وقد تبيّن أن الأضرار بعد موسمي الحرّ والأمطار تراجعت على نحو كبير هذه السنة في الطرقات حيث طُبّقت التقنية الجديدة. ومن الحلول التجريبية الأخرى في أستراليا إضافة قطع صغيرة من السيراميك فاتح اللون على خلطة الزفت، مما يعكس أشعّة الشمس ويخفّف من حرارة الطريق المعبّدة والمناطق المحيطة. وفي إحدى المدن الأسترالية نجم عن هذا التدبير تخفيض الحرارة بمعدّل عشر درجات في منطقة تعاني من ظاهرة «الجزيرة الحرارية»، حيث تعرقل الأبنية المرتفعة حركة تدفُّق الهواء.
ليست هذه التدابير رفاهية علمية؛ إذ إن اعتمادها يوفّر المليارات من فاتورة صيانة الطرق وتصليح الأضرار الناجمة عن ارتفاع الحرارة والسيول. ومن المتوقّع أن تتجاوز الكلفة الإضافية لصيانة الطرقات في أفريقيا وحدها 200 مليار دولار سنوياً.
معظم المنشآت والبنى التحتية في بلداننا اليوم لا تتناسب مع تقلّبات الطقس وأحوال الطبيعة الحاضرة؛ فماذا نفعل لنجعلها جاهزة للصمود أمام الآثار الحقيقية لتغيُّر المناخ؟
الشرق الأوسط