الصحارى «تتنفس» بخار الماء
الصحارى «تتنفس» بخار الماء
وفق دراسة استمرت عقوداً
حازم بدر
قد تبدو الصحارى خاملة بلا حياة، لكنها على قيد الحياة إلى حد كبير، فالكثبان الرملية، على وجه الخصوص تنمو وتتحرك. ووفقاً لمشروع بحثي دام عقودا، وتم نشر نتائجه بدورية «البحوث الجيوفيزيائية: سطح الأرض» الشهر الماضي، أكد الباحثون أنها «تتنفس أيضاً هواءً رطباً».
بخار الماء
وتظهر النتائج لأول مرة كيف يخترق بخار الماء تلك الكثبان، وهو ما يمكن أن يكون له تطبيقات واسعة النطاق تتجاوز الصحراء، لتشمل البحوث الصيدلانية، والزراعة وتجهيز الأغذية، وكذلك استكشاف الكواكب.
وعمل على هذا المشروع البحثي ميشيل لوج، أستاذ الهندسة الميكانيكية والفضائية في كلية الهندسة بجامعة كورنيل الأميركية، وامتد ليس فقط لفترة طويلة من الوقت، لكن أيضاً على مجموعة متنوعة من التضاريس.
بدأ المشروع منذ ما يقرب من 40 عاماً، عندما كان لوج يدرس سلوك السوائل والغازات والجسيمات الصلبة، ورغبة منه في قياس المادة بحساسية أكبر، طور هو وطلابه شكلا جديدا من الأجهزة يسمى «مجسات السعة»، التي تستخدم مستشعرات متعددة لتسجيل كل شيء من التركيز الصلب إلى السرعة إلى محتوى الماء، وكل ذلك بدقة مكانية غير مسبوقة.
وعندما اقترح زميل في جامعة يوتا الأميركية، على لوج بأن هذه التكنولوجيا قد تكون مفيدة في تصوير طبقات حزم الجليد الجبلية وتقييم احتمالية حدوث الانهيارات الثلجية، ذهب إلى مرآبه، وأمسك ببعض المسابير واختبرها في عاصفة ثلجية، وسرعان ما أقام شراكة مع شركة «كاباسيتيك»، للجمع بين مهارات كل منهما في الهندسة والإلكترونيات، وأثبتت المجسات الناتجة أيضاً فائدتها في أبحاث الهيدرولوجيا.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ لوج في التعاون مع أحمد ولد المختار من جامعة نانت بفرنسا، لاستخدام المجسات لدراسة المحتوى الرطوبي في الكثبان الرملية لفهم أفضل للعملية التي تتحول من خلالها الأراضي الزراعية إلى صحراء، وهو اهتمام سيصبح أكثر إلحاحا مع متابعة تأثير تغيرات المناخ العالمي.
وفي حين أن المسابير الأخرى يمكن أن تقيس كميات كبيرة من المادة، فإن مسابير لوج تدخل إلى العمق، وتجمع البيانات على نطاق مليمتر لتحديد الكمية الدقيقة للرطوبة في الرمال وكثافتها.
وللعمل في بيئة جديدة، تحتاج المجسات إلى تعديل، وهكذا بدأت عملية التجربة والخطأ التي استمرت عشر سنوات، حيث قام لوج برحلات دورية إلى الصحارى في قطر وموريتانيا لتجربة إصدارات مختلفة من المسبار.
تنفس الرمال
وكشف المسبار في النهاية عن مدى اختراق الرمال بكمية ضئيلة من الهواء تتسرب من خلالها، وهو ما أشارت إليه أبحاث سابقة تناولت هذا النوع من التسرب في الكثبان الرملية، لكن لم يتمكن أحد من إثبات ذلك حتى الآن.
يقول لوج في تقرير نشره الموقع الإلكتروني لجامعة كورنيل في 30 مارس (آذار) الماضي «تتدفق الرياح فوق الكثبان الرملية، ونتيجة لذلك تخلق اختلالات في الضغط، مما يجبر الهواء حرفياً على الدخول في الرمال والخروج منها، لذا فإن الرمال تتنفس، كالكائن الحي، وهو ما يسمح للميكروبات بالاستمرار في العمق داخل الكثبان الرملية شديدة الجفاف، رغم ارتفاع درجة الحرارة». وخلال معظم العقد الماضي، تعاون لوج مع أنتوني هاي، الأستاذ المساعد في علم الأحياء الدقيقة في كلية الزراعة وعلوم الحياة، لدراسة كيف يمكن للميكروبات أن تساعد في استقرار الكثبان الرملية ومنعها من التعدي على الطرق والبنية التحتية. وقرر لوج وفريقه أيضاً أن الأسطح الصحراوية تتبادل رطوبة أقل مع الغلاف الجوي مما كان متوقعا، وأن تبخر الماء من حبيبات الرمل الفردية يتصرف مثل تفاعل كيميائي بطيء. وتم جمع الجزء الأكبر من البيانات عام 2011، لكن الأمر استغرق عقداً آخر من لوج ومعاونيه لفهم بعض النتائج، مثل تحديد الاضطرابات على مستوى السطح التي تدفع موجات الرطوبة الزائلة أو غير الخطية للانتشار إلى أسفل عبر الكثبان الرملية بسرعة كبيرة.
يقول لوج «كان بإمكاننا نشر البيانات قبل 10 سنوات للإبلاغ عن دقة نهجنا، لكنها لم تكن مرضية حتى فهمنا ما كان يحدث، ولم يقم أحد فعلاً بأي شيء كهذا من قبل، فهذه هي المرة الأولى التي يمكن فيها قياس مستويات رطوبة منخفضة، كالتي قمنا بقياسها».
ويتوقع الباحثون أن يكون لمسبارهم عدد من التطبيقات، من دراسة الطريقة التي تمتص بها التربة المياه أو تصريف المياه في الزراعة، إلى معايرة ملاحظات الأقمار الصناعية فوق الصحارى، إلى استكشاف البيئات خارج كوكب الأرض التي قد تحتوي على كميات ضئيلة من المياه، ولن تكون هذه هي المرة الأولى التي يشق فيها بحث لوج طريقه إلى الفضاء.
ولكن ربما يكون التطبيق الفوري هو الكشف عن التلوث بالرطوبة في المستحضرات الصيدلانية، فمنذ عام 2018، يتعاون لوج مع شركة الأدوية «ميرك» لاستخدام المجسات في التصنيع المستمر، والذي ينظر إليه على أنه نظام أسرع وأكثر كفاءة وأقل تكلفة من التصنيع الدفعي. يقول لوج «إذا كنت ترغب في القيام بالتصنيع المستمر، يجب أن تكون لديك مجسات تسمح لك، في كل مكان مهم، بالتحقق من أن لديك السلوك الصحيح لعمليتك».
الشرق الأوسط
وفق دراسة استمرت عقوداً
حازم بدر
قد تبدو الصحارى خاملة بلا حياة، لكنها على قيد الحياة إلى حد كبير، فالكثبان الرملية، على وجه الخصوص تنمو وتتحرك. ووفقاً لمشروع بحثي دام عقودا، وتم نشر نتائجه بدورية «البحوث الجيوفيزيائية: سطح الأرض» الشهر الماضي، أكد الباحثون أنها «تتنفس أيضاً هواءً رطباً».
بخار الماء
وتظهر النتائج لأول مرة كيف يخترق بخار الماء تلك الكثبان، وهو ما يمكن أن يكون له تطبيقات واسعة النطاق تتجاوز الصحراء، لتشمل البحوث الصيدلانية، والزراعة وتجهيز الأغذية، وكذلك استكشاف الكواكب.
وعمل على هذا المشروع البحثي ميشيل لوج، أستاذ الهندسة الميكانيكية والفضائية في كلية الهندسة بجامعة كورنيل الأميركية، وامتد ليس فقط لفترة طويلة من الوقت، لكن أيضاً على مجموعة متنوعة من التضاريس.
بدأ المشروع منذ ما يقرب من 40 عاماً، عندما كان لوج يدرس سلوك السوائل والغازات والجسيمات الصلبة، ورغبة منه في قياس المادة بحساسية أكبر، طور هو وطلابه شكلا جديدا من الأجهزة يسمى «مجسات السعة»، التي تستخدم مستشعرات متعددة لتسجيل كل شيء من التركيز الصلب إلى السرعة إلى محتوى الماء، وكل ذلك بدقة مكانية غير مسبوقة.
وعندما اقترح زميل في جامعة يوتا الأميركية، على لوج بأن هذه التكنولوجيا قد تكون مفيدة في تصوير طبقات حزم الجليد الجبلية وتقييم احتمالية حدوث الانهيارات الثلجية، ذهب إلى مرآبه، وأمسك ببعض المسابير واختبرها في عاصفة ثلجية، وسرعان ما أقام شراكة مع شركة «كاباسيتيك»، للجمع بين مهارات كل منهما في الهندسة والإلكترونيات، وأثبتت المجسات الناتجة أيضاً فائدتها في أبحاث الهيدرولوجيا.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ لوج في التعاون مع أحمد ولد المختار من جامعة نانت بفرنسا، لاستخدام المجسات لدراسة المحتوى الرطوبي في الكثبان الرملية لفهم أفضل للعملية التي تتحول من خلالها الأراضي الزراعية إلى صحراء، وهو اهتمام سيصبح أكثر إلحاحا مع متابعة تأثير تغيرات المناخ العالمي.
وفي حين أن المسابير الأخرى يمكن أن تقيس كميات كبيرة من المادة، فإن مسابير لوج تدخل إلى العمق، وتجمع البيانات على نطاق مليمتر لتحديد الكمية الدقيقة للرطوبة في الرمال وكثافتها.
وللعمل في بيئة جديدة، تحتاج المجسات إلى تعديل، وهكذا بدأت عملية التجربة والخطأ التي استمرت عشر سنوات، حيث قام لوج برحلات دورية إلى الصحارى في قطر وموريتانيا لتجربة إصدارات مختلفة من المسبار.
تنفس الرمال
وكشف المسبار في النهاية عن مدى اختراق الرمال بكمية ضئيلة من الهواء تتسرب من خلالها، وهو ما أشارت إليه أبحاث سابقة تناولت هذا النوع من التسرب في الكثبان الرملية، لكن لم يتمكن أحد من إثبات ذلك حتى الآن.
يقول لوج في تقرير نشره الموقع الإلكتروني لجامعة كورنيل في 30 مارس (آذار) الماضي «تتدفق الرياح فوق الكثبان الرملية، ونتيجة لذلك تخلق اختلالات في الضغط، مما يجبر الهواء حرفياً على الدخول في الرمال والخروج منها، لذا فإن الرمال تتنفس، كالكائن الحي، وهو ما يسمح للميكروبات بالاستمرار في العمق داخل الكثبان الرملية شديدة الجفاف، رغم ارتفاع درجة الحرارة». وخلال معظم العقد الماضي، تعاون لوج مع أنتوني هاي، الأستاذ المساعد في علم الأحياء الدقيقة في كلية الزراعة وعلوم الحياة، لدراسة كيف يمكن للميكروبات أن تساعد في استقرار الكثبان الرملية ومنعها من التعدي على الطرق والبنية التحتية. وقرر لوج وفريقه أيضاً أن الأسطح الصحراوية تتبادل رطوبة أقل مع الغلاف الجوي مما كان متوقعا، وأن تبخر الماء من حبيبات الرمل الفردية يتصرف مثل تفاعل كيميائي بطيء. وتم جمع الجزء الأكبر من البيانات عام 2011، لكن الأمر استغرق عقداً آخر من لوج ومعاونيه لفهم بعض النتائج، مثل تحديد الاضطرابات على مستوى السطح التي تدفع موجات الرطوبة الزائلة أو غير الخطية للانتشار إلى أسفل عبر الكثبان الرملية بسرعة كبيرة.
يقول لوج «كان بإمكاننا نشر البيانات قبل 10 سنوات للإبلاغ عن دقة نهجنا، لكنها لم تكن مرضية حتى فهمنا ما كان يحدث، ولم يقم أحد فعلاً بأي شيء كهذا من قبل، فهذه هي المرة الأولى التي يمكن فيها قياس مستويات رطوبة منخفضة، كالتي قمنا بقياسها».
ويتوقع الباحثون أن يكون لمسبارهم عدد من التطبيقات، من دراسة الطريقة التي تمتص بها التربة المياه أو تصريف المياه في الزراعة، إلى معايرة ملاحظات الأقمار الصناعية فوق الصحارى، إلى استكشاف البيئات خارج كوكب الأرض التي قد تحتوي على كميات ضئيلة من المياه، ولن تكون هذه هي المرة الأولى التي يشق فيها بحث لوج طريقه إلى الفضاء.
ولكن ربما يكون التطبيق الفوري هو الكشف عن التلوث بالرطوبة في المستحضرات الصيدلانية، فمنذ عام 2018، يتعاون لوج مع شركة الأدوية «ميرك» لاستخدام المجسات في التصنيع المستمر، والذي ينظر إليه على أنه نظام أسرع وأكثر كفاءة وأقل تكلفة من التصنيع الدفعي. يقول لوج «إذا كنت ترغب في القيام بالتصنيع المستمر، يجب أن تكون لديك مجسات تسمح لك، في كل مكان مهم، بالتحقق من أن لديك السلوك الصحيح لعمليتك».
الشرق الأوسط