النفس المطمئنة
النفس المطمئنة
أ.د. حمزة بن سليمان الطيار
للإيمان بالقضاء والقدر سر عظيم في طمأنينة النفس، فمن مهونات الخطوب إدراك الإنسان أن الأمر بيد الله وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، وإذا أضاف إلى هذا إدراك أن اتخاذ الأسباب لا يُنافي الإيمان بالقضاء والقدر، وحرص على اتخاذ السبب الشرعي فهو إما مدرك لآماله مجتنب لمخاوفه، وإما أن لا يكتب له ذلك فيتلقى ذلك بنفس مطمئنة..
طمأنينة النفس واستراحة البال وانشرح الصدر معانٍ متقاربة لا يَسَعُ من يعي أهميتَها أن يزهد فيها؛ لما ترتبط به من صلاح المعاش والمعاد، فهي العدة التي يستعين بها المجتهد في تحصيل مصالحه، وقد تُعوز الـمَطَالبُ من لم يستخدم هذه العدة؛ إذ كثير من المرغوبات الدينية والدنيوية محفوفة بمشاقَّ وصعوبات، وتزدحم عليها جموع المتنافسين، فلن يُحصلها من رامَهَا من غير أن يتمتع من سعة الصدر بما يتحمل به نصَبَ الطريق، ووعثاء رحلة الطلب، ومضايقات المتنافسين، وحتى لو نال شيئاً من ذلك بتكلف ما ليس من طبعه فأنى له بطول البال وقوة العزم المعينين على صيانة المنجزات واستمرارها، كما أن الحياة تزخر بأحداث وملِمَّات لا يتحمّلها التحمّل المناسبَ إلا ذو نفس مطمئنة، لا يستبدُّ به الجزع، ولا يحرمه الضجر من التروّي والتثبت وتلقّي كل مشكل بالحلِّ الذي ينبغي أن يعالج به، وإذا كان كذلك فما أشدَّ حاجتنا إلى معرفة أسباب جلب الطمأنينة للنفس، والحرص على تعاطي تلك الأسباب، ولي مع ذلك وقفات:
الأولى: أهم أسباب طمأنينة النفس المواظبة على ذكر الله تعالى، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وأولى ما اعتني به من الذكر تلاوة القرآن الكريم، والمحافظة على الأذكار النبوية في محالِّها التي يُسنُّ أن تقال فيه، فالإتيان بالذكر المأثور في محله غبطة وبركة ويُمن يتبدّد به الإشكال، وتصير به المحنة منحة، وفرق شاسع بين من يدرك أنها علاج ما دهمه من معضلة فيبادر إليها، وبين من لا يقتنع بذلك فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ...) أخرجه مسلم، فها هي أم سلمة رضي الله عنها لقنت ذكراً في محلِّه، فتلقنته ونالت بركة امتثال هذا التوجيه.
الثانية: للإيمان بالقضاء والقدر سر عظيم في طمأنينة النفس، فمن مهونات الخطوب إدراك الإنسان أن الأمر بيد الله وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، وإذا أضاف إلى هذا إدراك أن اتخاذ الأسباب لا يُنافي الإيمان بالقضاء والقدر، وحرص على اتخاذ السبب الشرعي فهو إما مدرك لآماله مجتنب لمخاوفه، وإما أن لا يكتب له ذلك فيتلقى ذلك بنفس مطمئنة، كما أن استصحاب هذا المبدأ الصحيح يُعينُ من تعرّض لبعض الملمات المؤلمة على تجنبه المبالغة في لوم نفسه، والانشغال بجلد الذات الذي تترتب عليه آلام نفسية عميقة تُفاقم من وقع المشكلة، فيكابد ألم الملمة، والألم الناشئ من الغفلة عن قواعد الإيمان بالقضاء والقدر، ولو طبق ما أمر به في مثل هذه الحالة لم يضف على كاهله ثقلاً جديداً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» أخرجه مسلم.
الثالثة: القناعة بما كتب الله تعالى لعبده من رزق، وشكره عليه من أسباب طمأنية النفس وانشراح الصدر، فالقنوع الشاكر لا يستشعر الحرمان، فقلبه يتقلّب في نعيم السكينة؛ ولذلك كان من أولى الناس بأن يُعافى من أهم أسباب ضيق الصدر ألا وهو الحسد، فهو غني عن أن يحسد غيره على نعمةٍ لا يتلهّف إليها، بل يرى أنه في نعمة أعظم منها، والقناعة لا تستلزم عدمَ السعي للكمالات، ولا العزوفَ عن المكانات العالية، بل تعني أن يعرف الإنسان أهمية ما ناله سواءٌ كان قليلاً أم كثيراً في الواقع، ومن لا يتحلّى بصفة القناعة لو اجتمع له الكثير لم يعده شيئاً، بل ينظر دائماً إلى ما لم يحصله، وكأن نظره محجوب عن النعم التي بحوزته، ويصعب أن يجد مَنْ هذه حاله طعمَ السعادة والهناء بالغةً ما بلغت أملاكه.
الرياض
أ.د. حمزة بن سليمان الطيار
للإيمان بالقضاء والقدر سر عظيم في طمأنينة النفس، فمن مهونات الخطوب إدراك الإنسان أن الأمر بيد الله وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، وإذا أضاف إلى هذا إدراك أن اتخاذ الأسباب لا يُنافي الإيمان بالقضاء والقدر، وحرص على اتخاذ السبب الشرعي فهو إما مدرك لآماله مجتنب لمخاوفه، وإما أن لا يكتب له ذلك فيتلقى ذلك بنفس مطمئنة..
طمأنينة النفس واستراحة البال وانشرح الصدر معانٍ متقاربة لا يَسَعُ من يعي أهميتَها أن يزهد فيها؛ لما ترتبط به من صلاح المعاش والمعاد، فهي العدة التي يستعين بها المجتهد في تحصيل مصالحه، وقد تُعوز الـمَطَالبُ من لم يستخدم هذه العدة؛ إذ كثير من المرغوبات الدينية والدنيوية محفوفة بمشاقَّ وصعوبات، وتزدحم عليها جموع المتنافسين، فلن يُحصلها من رامَهَا من غير أن يتمتع من سعة الصدر بما يتحمل به نصَبَ الطريق، ووعثاء رحلة الطلب، ومضايقات المتنافسين، وحتى لو نال شيئاً من ذلك بتكلف ما ليس من طبعه فأنى له بطول البال وقوة العزم المعينين على صيانة المنجزات واستمرارها، كما أن الحياة تزخر بأحداث وملِمَّات لا يتحمّلها التحمّل المناسبَ إلا ذو نفس مطمئنة، لا يستبدُّ به الجزع، ولا يحرمه الضجر من التروّي والتثبت وتلقّي كل مشكل بالحلِّ الذي ينبغي أن يعالج به، وإذا كان كذلك فما أشدَّ حاجتنا إلى معرفة أسباب جلب الطمأنينة للنفس، والحرص على تعاطي تلك الأسباب، ولي مع ذلك وقفات:
الأولى: أهم أسباب طمأنينة النفس المواظبة على ذكر الله تعالى، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وأولى ما اعتني به من الذكر تلاوة القرآن الكريم، والمحافظة على الأذكار النبوية في محالِّها التي يُسنُّ أن تقال فيه، فالإتيان بالذكر المأثور في محله غبطة وبركة ويُمن يتبدّد به الإشكال، وتصير به المحنة منحة، وفرق شاسع بين من يدرك أنها علاج ما دهمه من معضلة فيبادر إليها، وبين من لا يقتنع بذلك فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ...) أخرجه مسلم، فها هي أم سلمة رضي الله عنها لقنت ذكراً في محلِّه، فتلقنته ونالت بركة امتثال هذا التوجيه.
الثانية: للإيمان بالقضاء والقدر سر عظيم في طمأنينة النفس، فمن مهونات الخطوب إدراك الإنسان أن الأمر بيد الله وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، وإذا أضاف إلى هذا إدراك أن اتخاذ الأسباب لا يُنافي الإيمان بالقضاء والقدر، وحرص على اتخاذ السبب الشرعي فهو إما مدرك لآماله مجتنب لمخاوفه، وإما أن لا يكتب له ذلك فيتلقى ذلك بنفس مطمئنة، كما أن استصحاب هذا المبدأ الصحيح يُعينُ من تعرّض لبعض الملمات المؤلمة على تجنبه المبالغة في لوم نفسه، والانشغال بجلد الذات الذي تترتب عليه آلام نفسية عميقة تُفاقم من وقع المشكلة، فيكابد ألم الملمة، والألم الناشئ من الغفلة عن قواعد الإيمان بالقضاء والقدر، ولو طبق ما أمر به في مثل هذه الحالة لم يضف على كاهله ثقلاً جديداً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» أخرجه مسلم.
الثالثة: القناعة بما كتب الله تعالى لعبده من رزق، وشكره عليه من أسباب طمأنية النفس وانشراح الصدر، فالقنوع الشاكر لا يستشعر الحرمان، فقلبه يتقلّب في نعيم السكينة؛ ولذلك كان من أولى الناس بأن يُعافى من أهم أسباب ضيق الصدر ألا وهو الحسد، فهو غني عن أن يحسد غيره على نعمةٍ لا يتلهّف إليها، بل يرى أنه في نعمة أعظم منها، والقناعة لا تستلزم عدمَ السعي للكمالات، ولا العزوفَ عن المكانات العالية، بل تعني أن يعرف الإنسان أهمية ما ناله سواءٌ كان قليلاً أم كثيراً في الواقع، ومن لا يتحلّى بصفة القناعة لو اجتمع له الكثير لم يعده شيئاً، بل ينظر دائماً إلى ما لم يحصله، وكأن نظره محجوب عن النعم التي بحوزته، ويصعب أن يجد مَنْ هذه حاله طعمَ السعادة والهناء بالغةً ما بلغت أملاكه.
الرياض