العرب والصينيون والتوقيت الاستراتيجي
العرب والصينيون والتوقيت الاستراتيجي
د. عبدالله الزازان
الاعتراف المتبادل لكلا البلدين بأهمية الآخر، فهذه القمم الثلاث السعودية والخليجية والعربية - الصينية كانت من أجل المصالح الوطنية والقومية والعالمية لاسيما وهي تأتي في ظروف تتصاعد فيها الأحداث في منطقتنا، بما يستلزم أن نتحرك في كل المجالات سعيا وراء إقرار السلام والحفاظ على استقلالية عالمنا العربي واستقراره ورعاية مصالحنا..
في الكتابات التي بدأت تظهر مؤخراً عن الصين والتي تحاول أن تتبنى حالة الفصل الميكانيكي ما بين قديم الصين وحاضرها وهو منهج خاطئ أوقعنا فيه التفسير الأوروبي للتاريخ والذي يتمثل في حالة الفصل ما بين العصور الوسطى والعصر الحديث والذي جرى تطبيقه في شبه القارة الهندية على يد الاستعمار البريطاني عندما حاول الاستعمار إلغاء التقاليد واللغات والأعراف الثقافية الهندية القديمة وتكوين المجتمع الهندي على أسس الحضارة الغربية المعاصرة من خلال سن شرائع جديدة وحصرها في المدنية الغربية الحديثة وترويض المجتمع الهندي على أفكار وتقاليد القرن التاسع عشر الأوروبية.
وفي هذا يقول المفكر الإنجليزي مونيه ويليامز: لم ترق لي ما أسفرت عنه تربيتنا التي طبقناها على الهنود لقد أوصلتهم تلك التربية إلى ازدراء آدابهم وفلسفتهم وحتى عقائدهم من غير أن يجنوا شيئًا من الأوروبيين.
لقد جردتهم التربية الأوروبية من كل خلق، فالمبادئ التي كان يستند عليها الهندي في حياته قد ولت إلى غير رجعة فقد خسر إيمان آبائه من غير أن تقدم له أوروبا شيئا، وانحصرت أخلاقه في مراعاة القواعد التي يفرضها عليه الشرطي، ذلك هو أثر التربية الأوروبية.
وعلى هذا النهج حاولت الثقافة الغربية أن تتسلل إلى الحضارات الأخرى بما فيها الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الصينية ولكن جذور الحضارتين ضاربة في عمق التاريخ، فالحضارة الصينية تعتبر أحد أعمدة الحضارات الإنسانية الكبرى.
ففي أثناء دراستي للصين في قسم الدراسات الآسيوية بجامعة سيتن هول بالولايات المتحدة الأمريكية كنت وقفت على عظمة الحضارة الصينية والمتمثلة في الفكر والفلسفة والفنون والآداب وكافة التراث الصيني فقد كان يطلق على الصين جنة المؤرخين.
ذلك أن هذه الحضارة - عبر مراحلها الزمنية - مرت بحركة تدوين واسعة لم تحظ بها غير الحضارة العربية الإسلامية.
يقول المفكر الفرنسي دينيس دريدرو: إن الصينيين [يفوقون كل ما عداهم من الآسيويين، في قدم عهدهم، وفي فنونهم وعقليتهم وحكمتهم وحسن سياستهم، وفي تذوقهم للفلسفة، بل إنهم في رأي بعض المؤلفين ليضارعون في هذه الأمور كلها أرقى الشعوب الأوروبية وأعظمها استنارة].
وقد قال الفيلسوف فولتير: لقد دامت هذه الإمبراطورية -يقصد الصين- 4000 عام دون أن يطرأ عليها تغيير يذكر في القوانين والعادات واللغة والأزياء وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم.
وفي هذا يقول ديورانت مؤلف كتاب قصة الحضارة في المجلدين الثالث والرابع: الهند وجيرانها الشرق الأقصى الصين.
هذا الإجلال الذي ينظر به علماء ذلك الوقت إلى الصين في قديمها جاء نتيجة دراساتهم لبلاد الصين وإعجابهم بها غاية الإعجاب.
وأنظر إلى ما قاله الكونت كسرلينج في خاتمة كتاب له والذي يعد من أغزر الكتب علما وأبرعها تصويرًا يقول: لقد أخرجت الصين القديمة أكمل صورة من صور الإنسانية وأنشأت أعلى ثقافة عامة عرفت في العالم كله. ويضيف قائلا إن عظمة لتتملكني وتؤثر بي كل يوم أكثر من الذي قبله وليس ثمة من يجادل في تفوق الصين في كل شأن من شؤون الحياة.
ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعاني آلام الفاقة والجهل والمنازعات الدينية، كان الإمبراطور الصيني ناي دزونج الذي جلس على عرش الصين وهو في الحادية عشر من عمره بعد أن تنازل له والده جوجوزو الثاني الذي كان أسس عائلة تانج كانت الصين في عهد هذا الإمبراطور تصدر ما زاد على حاجتها من الأرز والذرة والحرير والتوابل، وتنفق مكاسبها في ضروب من الترف لم يسبق لها مثيل فغصت بحيرتها بقوارب التنزه المنقوشة الزاهية الألوان، واكتظت أنهارها وقنواتها بالسفن التجارية، وكانت المراكب تخرج من موانيها تمخر عباب البحار إلى الثغور البعيدة على المحيط الهندي والخليج العربي ولم تعرف الصين قبل ذلك العهد مثل هذه الثروة الطائلة، ولم تستمتع قط بما كانت تستمتع به وقتئذ من الطعام الوفير والمساكن المريحة والملابس الجميلة.
وبينما كان الحرير يباع في أوروبا بما يعادل وزنه ذهباً كان هو الكساء المألوف لنصف سكان المدينة الصينية الكبرى. وكانت الملابس المتخذة من الفراء في القرن الثامن في شانجان أكثر منها في نيويورك في القرن الـ20 وكان في إحدى القرى القريبة من العاصمة مصانع الحرير تستخدم 100,000 عامل. وقد صاح الشاعر لي بو في إحدى الولائم قائلاً [ما أعظم هذا الكرم أطعمة شهية نادرة على موائد مرصعة بالجواهر الخضراء]، وكانت التماثيل تنحت من الياقوت وأجسام الأثرياء من الموتى تدفن على فرش من اللؤلؤ.
لقد وقفت أمام بعض المنعطفات التاريخية والتي أعتقد أنها تمثل علامات فارقة في الفلسفة الصينية تجاه القديم والحديث.
واليوم ومن خلال الإصلاحات التدريجية التي أطلقها مهندس الصين الحديثة دينج همساو بنج مع نهاية عام 1978م والتي تبنى فيها سياسات اقتصاد السوق والتحول إلى الخصخصة وزيادة دور القطاع الخاص، وجذب الاستثمارات الأجنبية والتصدير والتي على إثرها دقت الصين أبواب السيادة العالمية، وهو ما دفع مؤلف كتاب نهاية عصر القوة موزيس آر. نعيم إلى الاعتراف بأن النظام العالمي الجديد في طريقه إلى الشرق.
لقد كان العرب سباقين في قراءة التحولات التي يمر بها العالم الحديث.
ففي هذا الإطار تأتي العلاقات السعودية الصينية والتي تغطي مساحات واسعة من الاهتمام المشتركة:
مكانتنا القيادية في العالمين العربي والإسلامي ودورنا الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط ودور الصين كقوة عظمى ذات مصالح في منطقتنا.
ورغبتنا الأساسية في تنمية وتطوير بلادنا وإحلالها محلها اللائق، وكون الصين أهم مراكز التكنولوجيا والتطوير والتصنيع في العالم.
والحرص المشترك على الاستقرار ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط.
والاعتراف المتبادل لكلا البلدين بأهمية الآخر، فهذه القمم الثلاث السعودية والخليجية والعربية - الصينية كانت من أجل المصالح الوطنية والقومية والعالمية لاسيما وهي تأتي في ظروف تتصاعد فيها الأحداث في منطقتنا، بما يستلزم أن نتحرك في كل المجالات سعيا وراء إقرار السلام والحفاظ على استقلالية عالمنا العربي واستقراره ورعاية مصالحنا.
الرياض
د. عبدالله الزازان
الاعتراف المتبادل لكلا البلدين بأهمية الآخر، فهذه القمم الثلاث السعودية والخليجية والعربية - الصينية كانت من أجل المصالح الوطنية والقومية والعالمية لاسيما وهي تأتي في ظروف تتصاعد فيها الأحداث في منطقتنا، بما يستلزم أن نتحرك في كل المجالات سعيا وراء إقرار السلام والحفاظ على استقلالية عالمنا العربي واستقراره ورعاية مصالحنا..
في الكتابات التي بدأت تظهر مؤخراً عن الصين والتي تحاول أن تتبنى حالة الفصل الميكانيكي ما بين قديم الصين وحاضرها وهو منهج خاطئ أوقعنا فيه التفسير الأوروبي للتاريخ والذي يتمثل في حالة الفصل ما بين العصور الوسطى والعصر الحديث والذي جرى تطبيقه في شبه القارة الهندية على يد الاستعمار البريطاني عندما حاول الاستعمار إلغاء التقاليد واللغات والأعراف الثقافية الهندية القديمة وتكوين المجتمع الهندي على أسس الحضارة الغربية المعاصرة من خلال سن شرائع جديدة وحصرها في المدنية الغربية الحديثة وترويض المجتمع الهندي على أفكار وتقاليد القرن التاسع عشر الأوروبية.
وفي هذا يقول المفكر الإنجليزي مونيه ويليامز: لم ترق لي ما أسفرت عنه تربيتنا التي طبقناها على الهنود لقد أوصلتهم تلك التربية إلى ازدراء آدابهم وفلسفتهم وحتى عقائدهم من غير أن يجنوا شيئًا من الأوروبيين.
لقد جردتهم التربية الأوروبية من كل خلق، فالمبادئ التي كان يستند عليها الهندي في حياته قد ولت إلى غير رجعة فقد خسر إيمان آبائه من غير أن تقدم له أوروبا شيئا، وانحصرت أخلاقه في مراعاة القواعد التي يفرضها عليه الشرطي، ذلك هو أثر التربية الأوروبية.
وعلى هذا النهج حاولت الثقافة الغربية أن تتسلل إلى الحضارات الأخرى بما فيها الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الصينية ولكن جذور الحضارتين ضاربة في عمق التاريخ، فالحضارة الصينية تعتبر أحد أعمدة الحضارات الإنسانية الكبرى.
ففي أثناء دراستي للصين في قسم الدراسات الآسيوية بجامعة سيتن هول بالولايات المتحدة الأمريكية كنت وقفت على عظمة الحضارة الصينية والمتمثلة في الفكر والفلسفة والفنون والآداب وكافة التراث الصيني فقد كان يطلق على الصين جنة المؤرخين.
ذلك أن هذه الحضارة - عبر مراحلها الزمنية - مرت بحركة تدوين واسعة لم تحظ بها غير الحضارة العربية الإسلامية.
يقول المفكر الفرنسي دينيس دريدرو: إن الصينيين [يفوقون كل ما عداهم من الآسيويين، في قدم عهدهم، وفي فنونهم وعقليتهم وحكمتهم وحسن سياستهم، وفي تذوقهم للفلسفة، بل إنهم في رأي بعض المؤلفين ليضارعون في هذه الأمور كلها أرقى الشعوب الأوروبية وأعظمها استنارة].
وقد قال الفيلسوف فولتير: لقد دامت هذه الإمبراطورية -يقصد الصين- 4000 عام دون أن يطرأ عليها تغيير يذكر في القوانين والعادات واللغة والأزياء وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم.
وفي هذا يقول ديورانت مؤلف كتاب قصة الحضارة في المجلدين الثالث والرابع: الهند وجيرانها الشرق الأقصى الصين.
هذا الإجلال الذي ينظر به علماء ذلك الوقت إلى الصين في قديمها جاء نتيجة دراساتهم لبلاد الصين وإعجابهم بها غاية الإعجاب.
وأنظر إلى ما قاله الكونت كسرلينج في خاتمة كتاب له والذي يعد من أغزر الكتب علما وأبرعها تصويرًا يقول: لقد أخرجت الصين القديمة أكمل صورة من صور الإنسانية وأنشأت أعلى ثقافة عامة عرفت في العالم كله. ويضيف قائلا إن عظمة لتتملكني وتؤثر بي كل يوم أكثر من الذي قبله وليس ثمة من يجادل في تفوق الصين في كل شأن من شؤون الحياة.
ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعاني آلام الفاقة والجهل والمنازعات الدينية، كان الإمبراطور الصيني ناي دزونج الذي جلس على عرش الصين وهو في الحادية عشر من عمره بعد أن تنازل له والده جوجوزو الثاني الذي كان أسس عائلة تانج كانت الصين في عهد هذا الإمبراطور تصدر ما زاد على حاجتها من الأرز والذرة والحرير والتوابل، وتنفق مكاسبها في ضروب من الترف لم يسبق لها مثيل فغصت بحيرتها بقوارب التنزه المنقوشة الزاهية الألوان، واكتظت أنهارها وقنواتها بالسفن التجارية، وكانت المراكب تخرج من موانيها تمخر عباب البحار إلى الثغور البعيدة على المحيط الهندي والخليج العربي ولم تعرف الصين قبل ذلك العهد مثل هذه الثروة الطائلة، ولم تستمتع قط بما كانت تستمتع به وقتئذ من الطعام الوفير والمساكن المريحة والملابس الجميلة.
وبينما كان الحرير يباع في أوروبا بما يعادل وزنه ذهباً كان هو الكساء المألوف لنصف سكان المدينة الصينية الكبرى. وكانت الملابس المتخذة من الفراء في القرن الثامن في شانجان أكثر منها في نيويورك في القرن الـ20 وكان في إحدى القرى القريبة من العاصمة مصانع الحرير تستخدم 100,000 عامل. وقد صاح الشاعر لي بو في إحدى الولائم قائلاً [ما أعظم هذا الكرم أطعمة شهية نادرة على موائد مرصعة بالجواهر الخضراء]، وكانت التماثيل تنحت من الياقوت وأجسام الأثرياء من الموتى تدفن على فرش من اللؤلؤ.
لقد وقفت أمام بعض المنعطفات التاريخية والتي أعتقد أنها تمثل علامات فارقة في الفلسفة الصينية تجاه القديم والحديث.
واليوم ومن خلال الإصلاحات التدريجية التي أطلقها مهندس الصين الحديثة دينج همساو بنج مع نهاية عام 1978م والتي تبنى فيها سياسات اقتصاد السوق والتحول إلى الخصخصة وزيادة دور القطاع الخاص، وجذب الاستثمارات الأجنبية والتصدير والتي على إثرها دقت الصين أبواب السيادة العالمية، وهو ما دفع مؤلف كتاب نهاية عصر القوة موزيس آر. نعيم إلى الاعتراف بأن النظام العالمي الجديد في طريقه إلى الشرق.
لقد كان العرب سباقين في قراءة التحولات التي يمر بها العالم الحديث.
ففي هذا الإطار تأتي العلاقات السعودية الصينية والتي تغطي مساحات واسعة من الاهتمام المشتركة:
مكانتنا القيادية في العالمين العربي والإسلامي ودورنا الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط ودور الصين كقوة عظمى ذات مصالح في منطقتنا.
ورغبتنا الأساسية في تنمية وتطوير بلادنا وإحلالها محلها اللائق، وكون الصين أهم مراكز التكنولوجيا والتطوير والتصنيع في العالم.
والحرص المشترك على الاستقرار ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط.
والاعتراف المتبادل لكلا البلدين بأهمية الآخر، فهذه القمم الثلاث السعودية والخليجية والعربية - الصينية كانت من أجل المصالح الوطنية والقومية والعالمية لاسيما وهي تأتي في ظروف تتصاعد فيها الأحداث في منطقتنا، بما يستلزم أن نتحرك في كل المجالات سعيا وراء إقرار السلام والحفاظ على استقلالية عالمنا العربي واستقراره ورعاية مصالحنا.
الرياض