مشقة القراءة والنشر
مشقة القراءة والنشر
د. شيماء سراج عمارة
مازلت أتذكر فرحتي السنوية بهذا اليوم من كل عام والذي نذهب فيه أنا وأشقائي برفقة أبي وأمي إلى معرض الكتاب، فقد كان أبي حريصًا كل الحرص على وجود مكتبة صغيرة بمنزلنا، تضم مجموعة منتقاة من الكتب، والتي تتنوع ما بين كتب للأطفال سواء كتب معلوماتية أو قصص قصيرة، ومجموعة أخرى من الكتب الدينية وقصص الأنبياء، والكتب العلمية البسيطة والقواميس وعدد من الكتب الأجنبية، لأضيف إلى مكتبتي بصفة سنوية مجموعة أخرى من الكتب والتي تندرج تحت تلك الأقسام المتنوعة وأقسام أخرى قمت باستحداثها مع الزمن.
لتظل مكتبتي رفيقة لي إلى يومنا هذا، لأنقلها بكتبها وأضيف عليها إلى منزلي الحالي، أحب كتبها بكافة تفاصيلها، من وقت للآخر أذهب إلى الجزء المخصص لكتب الأطفال وألتقط أحدهم وأتذكر فرحتي يوم اقتناء هذا الكتاب، ويوم قراءته، وكيف كنت أعيش بين سطوره، وأصدق خيال عقلة الإصبع، وأحلم بزيارة قصر السندريلا الذي جسدته الكتب المجسمة، وأتمنى مقابلة بيضاء الثلج.
مازلت أتذكر سؤالي إلى والدي، ما هي الذرة؟ وحرصه على شراء كتاب مبسط يشرح تكوين الذرة، ويساعدني في فهمها، لينعكس ذلك على سرعة استيعابي للمنهج الدراسي المخصص لشرح الذرة مقارنة بزملائي الذين تطرح عليهم المعلومة لأول مرة، مازلت أتذكر موسوعة العلوم، وموسوعة لكل سؤال إجابة، والعظماء مائة، وعالم البحار، وعالم الطيور، وعالم الحيوان، وسلسلة العقاد، وروايات نجيب محفوظ، وتاريخ أهم الدول، وتفسير الشعراوي، والتي تعد بالنسبة لي كنوز كنا نحرص كأسرة أن نضيف عليها عند كل زيارة سنوية لمعرض الكتاب.
لتتحول طقوس احترامي للقراءة وحب امتلاك الكتب، إلى ثقافة أسرية تعودت عليها، لتؤثر على توجهي نحو حب الكتابة، لأجد في الكتابة ملاذًا آمنًا يخرجني من مشقة الحياة، ويكسر من ضغوطاتها وحدتها، فالفترة التي أقضيها في الكتابة تعد بالنسبة لي فترة استشفائية، تخلصني من صعاب الروتين اليومي، لتجدد طاقتي، وتعيد لي نفسي.
لأبدأ في اتخاذ طريق جديد، وهو الرغبة في الانضمام إلى صف الناشرين من أصحاب الكتب، لأسلك مجال إعداد الكتب الاقتصادية المبسطة وهو مجال دراستي، لتأتي مرحلة النشر، ولمن لا يعرف، فتلك هي المرحلة الحاسمة، فقد كنت أتخيل أن المرحلة الأصعب تكمن في مرحلة الكتابة والإعداد، لأتفاجأ أن الأصعب منها هو خروج كتابك إلى النور.
فالكاتب يفرح بالانتهاء من إعداد كتابه ومراجعته، ويظن أنه سيقابل بالترحاب، لكن الواقع، مختلف تمامًا، يجد الكاتب نفسه في رحلة بحث عن ناشر وموزع، ليتحول توقعه بالترحاب، إلى رفض من العديد من دور النشر داخل وخارج الوطن، ليدرك تمامًا أن تلك المرحلة أصبحت قاصرة على مجموعة مسيطرة، وخلال تلك الرحلة تتبعثر أفكاره بين هنا وهناك، لترسخ ضياع حقوق ملكيته الفكرية، ليجد نفسه أمام طريق واحد لا بديل له، وهو العمل على تحمل نفقات نشر كتابه والتضحية بآية امتيازات، ليكون مكسبه الوحيد هو مكسب الصدقة، لكون كتابه "علم ينتفع به" وعلى نفقته الخاصة، خشية السرقة الصريحة لمؤلفه أثناء رحلة البحث عن سبيل للنشر، لينعكس الأمر على ارتفاع نفقة الطباعة والنشر، ومن ثم ارتفاع ثمن الكتاب.
لأحرص مجددًا على الزيارة السنوية لمعرض الكتاب، ليكون هدفي الأول من الزيارة هو متابعة كتبي التي نجحت في نشرها بعد رحلة عناء، والهدف الثاني هو محاولة اقتناء الكتب الحديثة، والشيء الجميل أن المعرض عليه إقبال كبير من مختلف الطوائف، وبخاصة الزيارات الأسرية والحرص على اصطحاب الأطفال، وأثناء فرحتي بتلك الأعداد، كان يسيطر على فكري سؤالان، هما هل تلك الأسر ستحرص على اقتناء كتب لأطفالها؟ وإن حرصت هل ستتمكن من اقتطاع جزء من دخلها لتغطية نفقات شراء الكتب؟
لتأتيني الإجابة من تأمل الوضع العام، لأجد أن معظم الرواد، يحرصون على التجول بين صالات العرض، لكن مع ارتفاع أسعار الكتب، تصبح القراءة واقتناء الكتب بالنسبة لزوار المعرض مشقة على مستويات دخولهم، كما كانت مشقة على دخول عدد من الكتاب الذين حرصوا على نشر كتبهم، لتكون نقطة التجمع في نهاية اليوم وإذ ربما للبعض منذ بداية اليوم، بين جنبات صالات الطعام ونغمات الموسيقى الصاخبة بعد اقتناء البعض لبعض الكتب المتلائمة أسعارها مع مستويات دخولهم، لينتهي يوم زيارة المعرض للعديد من الأسر وكأنه رحلة ترفيهية، أدرك تمامًا أن ذاكرة الأطفال لن تبقي منها على شيء بعد أيام قليلة، لينتهي انطباعي بأن كلا من القراءة والنشر أصبحا مشقة، وهو الأمر الذي سيؤثر حتمًا على ثقافة وذكريات جيل بأكمله.
الأهرام
د. شيماء سراج عمارة
مازلت أتذكر فرحتي السنوية بهذا اليوم من كل عام والذي نذهب فيه أنا وأشقائي برفقة أبي وأمي إلى معرض الكتاب، فقد كان أبي حريصًا كل الحرص على وجود مكتبة صغيرة بمنزلنا، تضم مجموعة منتقاة من الكتب، والتي تتنوع ما بين كتب للأطفال سواء كتب معلوماتية أو قصص قصيرة، ومجموعة أخرى من الكتب الدينية وقصص الأنبياء، والكتب العلمية البسيطة والقواميس وعدد من الكتب الأجنبية، لأضيف إلى مكتبتي بصفة سنوية مجموعة أخرى من الكتب والتي تندرج تحت تلك الأقسام المتنوعة وأقسام أخرى قمت باستحداثها مع الزمن.
لتظل مكتبتي رفيقة لي إلى يومنا هذا، لأنقلها بكتبها وأضيف عليها إلى منزلي الحالي، أحب كتبها بكافة تفاصيلها، من وقت للآخر أذهب إلى الجزء المخصص لكتب الأطفال وألتقط أحدهم وأتذكر فرحتي يوم اقتناء هذا الكتاب، ويوم قراءته، وكيف كنت أعيش بين سطوره، وأصدق خيال عقلة الإصبع، وأحلم بزيارة قصر السندريلا الذي جسدته الكتب المجسمة، وأتمنى مقابلة بيضاء الثلج.
مازلت أتذكر سؤالي إلى والدي، ما هي الذرة؟ وحرصه على شراء كتاب مبسط يشرح تكوين الذرة، ويساعدني في فهمها، لينعكس ذلك على سرعة استيعابي للمنهج الدراسي المخصص لشرح الذرة مقارنة بزملائي الذين تطرح عليهم المعلومة لأول مرة، مازلت أتذكر موسوعة العلوم، وموسوعة لكل سؤال إجابة، والعظماء مائة، وعالم البحار، وعالم الطيور، وعالم الحيوان، وسلسلة العقاد، وروايات نجيب محفوظ، وتاريخ أهم الدول، وتفسير الشعراوي، والتي تعد بالنسبة لي كنوز كنا نحرص كأسرة أن نضيف عليها عند كل زيارة سنوية لمعرض الكتاب.
لتتحول طقوس احترامي للقراءة وحب امتلاك الكتب، إلى ثقافة أسرية تعودت عليها، لتؤثر على توجهي نحو حب الكتابة، لأجد في الكتابة ملاذًا آمنًا يخرجني من مشقة الحياة، ويكسر من ضغوطاتها وحدتها، فالفترة التي أقضيها في الكتابة تعد بالنسبة لي فترة استشفائية، تخلصني من صعاب الروتين اليومي، لتجدد طاقتي، وتعيد لي نفسي.
لأبدأ في اتخاذ طريق جديد، وهو الرغبة في الانضمام إلى صف الناشرين من أصحاب الكتب، لأسلك مجال إعداد الكتب الاقتصادية المبسطة وهو مجال دراستي، لتأتي مرحلة النشر، ولمن لا يعرف، فتلك هي المرحلة الحاسمة، فقد كنت أتخيل أن المرحلة الأصعب تكمن في مرحلة الكتابة والإعداد، لأتفاجأ أن الأصعب منها هو خروج كتابك إلى النور.
فالكاتب يفرح بالانتهاء من إعداد كتابه ومراجعته، ويظن أنه سيقابل بالترحاب، لكن الواقع، مختلف تمامًا، يجد الكاتب نفسه في رحلة بحث عن ناشر وموزع، ليتحول توقعه بالترحاب، إلى رفض من العديد من دور النشر داخل وخارج الوطن، ليدرك تمامًا أن تلك المرحلة أصبحت قاصرة على مجموعة مسيطرة، وخلال تلك الرحلة تتبعثر أفكاره بين هنا وهناك، لترسخ ضياع حقوق ملكيته الفكرية، ليجد نفسه أمام طريق واحد لا بديل له، وهو العمل على تحمل نفقات نشر كتابه والتضحية بآية امتيازات، ليكون مكسبه الوحيد هو مكسب الصدقة، لكون كتابه "علم ينتفع به" وعلى نفقته الخاصة، خشية السرقة الصريحة لمؤلفه أثناء رحلة البحث عن سبيل للنشر، لينعكس الأمر على ارتفاع نفقة الطباعة والنشر، ومن ثم ارتفاع ثمن الكتاب.
لأحرص مجددًا على الزيارة السنوية لمعرض الكتاب، ليكون هدفي الأول من الزيارة هو متابعة كتبي التي نجحت في نشرها بعد رحلة عناء، والهدف الثاني هو محاولة اقتناء الكتب الحديثة، والشيء الجميل أن المعرض عليه إقبال كبير من مختلف الطوائف، وبخاصة الزيارات الأسرية والحرص على اصطحاب الأطفال، وأثناء فرحتي بتلك الأعداد، كان يسيطر على فكري سؤالان، هما هل تلك الأسر ستحرص على اقتناء كتب لأطفالها؟ وإن حرصت هل ستتمكن من اقتطاع جزء من دخلها لتغطية نفقات شراء الكتب؟
لتأتيني الإجابة من تأمل الوضع العام، لأجد أن معظم الرواد، يحرصون على التجول بين صالات العرض، لكن مع ارتفاع أسعار الكتب، تصبح القراءة واقتناء الكتب بالنسبة لزوار المعرض مشقة على مستويات دخولهم، كما كانت مشقة على دخول عدد من الكتاب الذين حرصوا على نشر كتبهم، لتكون نقطة التجمع في نهاية اليوم وإذ ربما للبعض منذ بداية اليوم، بين جنبات صالات الطعام ونغمات الموسيقى الصاخبة بعد اقتناء البعض لبعض الكتب المتلائمة أسعارها مع مستويات دخولهم، لينتهي يوم زيارة المعرض للعديد من الأسر وكأنه رحلة ترفيهية، أدرك تمامًا أن ذاكرة الأطفال لن تبقي منها على شيء بعد أيام قليلة، لينتهي انطباعي بأن كلا من القراءة والنشر أصبحا مشقة، وهو الأمر الذي سيؤثر حتمًا على ثقافة وذكريات جيل بأكمله.
الأهرام