صراخ بلا رنين
صراخ بلا رنين
د. ملحة عبدالله
لم تعد صرخات المدرسة التعبيرية التي غيرت العالم مجدية، لأن صرخات النساء في غزة بلا رنين لكنها الأقوى والأمر.. لم يعد للعالم آذان بالرغم من أن له عيوناً، فلماذا يصدع رؤوسنا بدعوى الأخلاقية الإنسانية التي سقطت وسقط معها وجه هذا العالم..
من أصعب الصدمات والمواقف والاعتبارات والأحاسيس والمشاعر أن تصدر منك صرخة فترتد لتدوي داخل رأسك انت فقط، وأنت تحملق في العالم فتراه ينظر لك ببلاهة (واستهبال) وكأن صوتك صدر إلى فضاءات مديدة عديدة لا تراها أنت، يذهب للبعيد البعيد ثم يتلاشى فلا رنين له!
كنا نعيش في الأمس القريب ونحن نثق في كل شيء حتى أعدائنا نثق فيهم، ذلك لأننا جُبلنا على أن الرجل كلمة، وأن الوعد كلمة، وأن العالم كلمة، تحكمها مواثيق مرابطة العرى؛ فعشنا في سلام داخلي نتاج هذه الثقة، وتتكشف الأقنعة ويسقط العالم في هوة البلاهة، ونستيقظ نحن على كلمة ملساء زئبقية، كلمة من لا كلمة له، ومداهنة كاشفة أسقطت معها قناع العالم الزائف المتزيئ بزي أملس، نحسبه براقا ملتزما لكنه كاذب متحذلق، رديء، صدئ، أكل الدهر على مفاصله وشرب.
كنا نتوهم أننا نعيش في العالم وبحسب نظرية العولمة الخادعة، بأن الإنسان يعيش في العالم ويكون هذا العالم مسؤولا عنه بحسب ما طرحته العولمة، وأن هناك منظمات وهيئات ومجالس تحتويه حينما يحيق به الأذى. فقد رأينا كيف أن الحرب العالمية قامت من أجل رجل قُتِل على حدود دولة أخرى، وأن حرب داحس والغبراء قامت من أجل ناقة! فأوحي لنا بأن هناك عالما وهناك إنسانا له حقوق في هذا العالم الجديد، كما أننا كدنا أن نصدق بما يسمى بحقوق الإنسان المزعومة.
وقد عالجت الفنون حروب ما بعد الحرب العالمية وظهرت المدارس الفنية الحديثة ضد تلك الحروب، فنذكر حينما ندرس تاريخ الفنون وظهور المدارس الفنية وتاريخ الفن، أن الحرب العالمية كانت سبب ظهور تلك المدارس الحديثة مثل الدادية والتعبيرية والسريالية والعبث وغيرها، ذلك لأن الإنسان أصابته الصدمة من هذا العالم كما أصابتنا اليوم فهل التاريخ يعيد نفسه كما يقال؟!
فالمدرسة التعبيرية ما هي إلا صرخة في وجه العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية منبعثة من ألمانيا كخطوة أولى لبزوغها. كانت رد فعل على الانطباعية وعلى الكلاسيكية، تسخر من هؤلاء المنمقين الكلاسكة ومن فنونهم المقننة ومن كل الفنون الأكاديمية، ومن رفاهة القصور والمعابد حينها، ومن إنسان يرتدي القفاز قبل المصافحة. قامت هذه المدرسة على تشويه ذلك العالم، لأنها رأته بلا قناع، كما نراه اليوم، بل إلى تصويره كما هو إبان هذه الحروب التي تأكل البشر بلا هوادة. ظهرت في مناخ يسوده الظلم فكانت تلك الصرخة المميزة لها أمام قبح العالم. ولذلك تعمدوا ألا يصوروا العالم بتفاصيله المقننة بحسب شروط الأكاديمية الفرنسية حينها، بل صوروا قبحه من خلال الهروب إلى تصوير المشاعر التي تثيرها الأحداث والحروب، وما أصعبه من تصوير مؤثر هز العالم بأسره بل وغيره، تصوير المشاعر الداخلية تجاه العالم بعد الحرب. وهو ما نراه في فن فان جوخ، وإدوارد مونش، وجيمس إنسورد، وهودلر هنري وماتيس رائد المدرسة الوحشية، وإيجون شيلي، وماكس بيكمان، وبابلو بيكاسو، وبول كليي وغيرهم، فاختلف أسلوب كل منهم، إلا أنه جمعهم كلهم سمات هذا المدرسة وهي (تعبيرات الخوف، الرعب، البشاعة، قوة الهلوسات، الحالات الذهنية وما تفعله الطبيعة بالإنسان، وبالذات الداخلية).
حينما انتهت الحرب أقيم معرض كبير بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لم يُسمح لمن عمرهم دون الثامنة عشرة بالدخول، لأن هذا الفن يتلاعب بالزائرين ويجبرهم بأن يكرهوه وأن يسخروا منه من خلال محو معالم الفن المقنن، بل ولتعزيز قيمة الصدمة من خلال عدم التسامح مع هذا العالم. حتى أن بعض المعارض دعت الزائرين ليدخلوا أحد المعارض فيفاجأوا بأكوام القمامة في كل ركن وناحية، تعبيرا عما خلفه هذا العالم الظالم في نفوس البشر حتى تركت بداخلهم هذه الأكوام التي تعكس فعل العالم بهم جراء هذه الحروب.
وكذلك قامت الدادية بعد الحرب العالمية الثانية وكان شعارها لا للفن، ليس رفضاً للفنون في حد ذاتها فحسب، وإنما باعتبار أن الفنون هي حمالة الرسائل، ولذا باءت كل رسائل الفن بالفشل. فقامت على تحطيم قواعده وقواعد علم الجمال أيضاً كما في التعبيرية، بل عمدت إلى تخريب كل أشكال الفن التقليدي، فكان لها أثرها الكبير في نشأة الفن الحديث، وكان رائدها ترسيان تزارا. وقد اعتبرها تاريخ الفن ومؤرخوه بأنها ظاهرة انفجرت في وجه الأزمات السياسية، والاقتصادية والأخلاقية فاعتبروها أنها المنقذ الذي سيبدد كل هذه الأزمات.
والسؤال المحير الآن هو: ماذا ستنجبه الفنون بعد أهوال هذه الحروب التي نراها الآن، إنها أكثر بشاعة من تلك الحروب حينها، فقد كنا نرى -في الأفلام الوثائقية- أن القطارات حينها تحمل المسنين والنساء والأطفال إلى مناطق بعيدة لتأمينهم. أنها كانت أكثر إنسانية وأخلاقية مما نراه اليوم في غزة أرض العرب والعروبة. رأينا المجنزرات تمتطي الجثث، ورأينا القبور تُنْبَش ويمثل برفات الموتى، ورأينا قتل الأطفال مستباحا، ورأينا النساء تجرجرن من شعورهن وتعتقلن وتعذبن. والعالم يرى ويسمع، ومن الناحية الأخرى يرتدي قناع الإنسانية بمنظماته المتملقة الفجة!
لم تعد صرخات المدرسة التعبيرية التي غيرت العالم مجدية، لأن صرخات النساء في غزة بلا رنين لكنها الأقوى والأمر.. لم يعد للعالم آذان بالرغم من أن له عيوناً، فلماذا يصدع رؤوسنا بدعوى الأخلاقية الإنسانية التي سقطت وسقط معها وجه هذا العالم.
الرياض
د. ملحة عبدالله
لم تعد صرخات المدرسة التعبيرية التي غيرت العالم مجدية، لأن صرخات النساء في غزة بلا رنين لكنها الأقوى والأمر.. لم يعد للعالم آذان بالرغم من أن له عيوناً، فلماذا يصدع رؤوسنا بدعوى الأخلاقية الإنسانية التي سقطت وسقط معها وجه هذا العالم..
من أصعب الصدمات والمواقف والاعتبارات والأحاسيس والمشاعر أن تصدر منك صرخة فترتد لتدوي داخل رأسك انت فقط، وأنت تحملق في العالم فتراه ينظر لك ببلاهة (واستهبال) وكأن صوتك صدر إلى فضاءات مديدة عديدة لا تراها أنت، يذهب للبعيد البعيد ثم يتلاشى فلا رنين له!
كنا نعيش في الأمس القريب ونحن نثق في كل شيء حتى أعدائنا نثق فيهم، ذلك لأننا جُبلنا على أن الرجل كلمة، وأن الوعد كلمة، وأن العالم كلمة، تحكمها مواثيق مرابطة العرى؛ فعشنا في سلام داخلي نتاج هذه الثقة، وتتكشف الأقنعة ويسقط العالم في هوة البلاهة، ونستيقظ نحن على كلمة ملساء زئبقية، كلمة من لا كلمة له، ومداهنة كاشفة أسقطت معها قناع العالم الزائف المتزيئ بزي أملس، نحسبه براقا ملتزما لكنه كاذب متحذلق، رديء، صدئ، أكل الدهر على مفاصله وشرب.
كنا نتوهم أننا نعيش في العالم وبحسب نظرية العولمة الخادعة، بأن الإنسان يعيش في العالم ويكون هذا العالم مسؤولا عنه بحسب ما طرحته العولمة، وأن هناك منظمات وهيئات ومجالس تحتويه حينما يحيق به الأذى. فقد رأينا كيف أن الحرب العالمية قامت من أجل رجل قُتِل على حدود دولة أخرى، وأن حرب داحس والغبراء قامت من أجل ناقة! فأوحي لنا بأن هناك عالما وهناك إنسانا له حقوق في هذا العالم الجديد، كما أننا كدنا أن نصدق بما يسمى بحقوق الإنسان المزعومة.
وقد عالجت الفنون حروب ما بعد الحرب العالمية وظهرت المدارس الفنية الحديثة ضد تلك الحروب، فنذكر حينما ندرس تاريخ الفنون وظهور المدارس الفنية وتاريخ الفن، أن الحرب العالمية كانت سبب ظهور تلك المدارس الحديثة مثل الدادية والتعبيرية والسريالية والعبث وغيرها، ذلك لأن الإنسان أصابته الصدمة من هذا العالم كما أصابتنا اليوم فهل التاريخ يعيد نفسه كما يقال؟!
فالمدرسة التعبيرية ما هي إلا صرخة في وجه العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية منبعثة من ألمانيا كخطوة أولى لبزوغها. كانت رد فعل على الانطباعية وعلى الكلاسيكية، تسخر من هؤلاء المنمقين الكلاسكة ومن فنونهم المقننة ومن كل الفنون الأكاديمية، ومن رفاهة القصور والمعابد حينها، ومن إنسان يرتدي القفاز قبل المصافحة. قامت هذه المدرسة على تشويه ذلك العالم، لأنها رأته بلا قناع، كما نراه اليوم، بل إلى تصويره كما هو إبان هذه الحروب التي تأكل البشر بلا هوادة. ظهرت في مناخ يسوده الظلم فكانت تلك الصرخة المميزة لها أمام قبح العالم. ولذلك تعمدوا ألا يصوروا العالم بتفاصيله المقننة بحسب شروط الأكاديمية الفرنسية حينها، بل صوروا قبحه من خلال الهروب إلى تصوير المشاعر التي تثيرها الأحداث والحروب، وما أصعبه من تصوير مؤثر هز العالم بأسره بل وغيره، تصوير المشاعر الداخلية تجاه العالم بعد الحرب. وهو ما نراه في فن فان جوخ، وإدوارد مونش، وجيمس إنسورد، وهودلر هنري وماتيس رائد المدرسة الوحشية، وإيجون شيلي، وماكس بيكمان، وبابلو بيكاسو، وبول كليي وغيرهم، فاختلف أسلوب كل منهم، إلا أنه جمعهم كلهم سمات هذا المدرسة وهي (تعبيرات الخوف، الرعب، البشاعة، قوة الهلوسات، الحالات الذهنية وما تفعله الطبيعة بالإنسان، وبالذات الداخلية).
حينما انتهت الحرب أقيم معرض كبير بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لم يُسمح لمن عمرهم دون الثامنة عشرة بالدخول، لأن هذا الفن يتلاعب بالزائرين ويجبرهم بأن يكرهوه وأن يسخروا منه من خلال محو معالم الفن المقنن، بل ولتعزيز قيمة الصدمة من خلال عدم التسامح مع هذا العالم. حتى أن بعض المعارض دعت الزائرين ليدخلوا أحد المعارض فيفاجأوا بأكوام القمامة في كل ركن وناحية، تعبيرا عما خلفه هذا العالم الظالم في نفوس البشر حتى تركت بداخلهم هذه الأكوام التي تعكس فعل العالم بهم جراء هذه الحروب.
وكذلك قامت الدادية بعد الحرب العالمية الثانية وكان شعارها لا للفن، ليس رفضاً للفنون في حد ذاتها فحسب، وإنما باعتبار أن الفنون هي حمالة الرسائل، ولذا باءت كل رسائل الفن بالفشل. فقامت على تحطيم قواعده وقواعد علم الجمال أيضاً كما في التعبيرية، بل عمدت إلى تخريب كل أشكال الفن التقليدي، فكان لها أثرها الكبير في نشأة الفن الحديث، وكان رائدها ترسيان تزارا. وقد اعتبرها تاريخ الفن ومؤرخوه بأنها ظاهرة انفجرت في وجه الأزمات السياسية، والاقتصادية والأخلاقية فاعتبروها أنها المنقذ الذي سيبدد كل هذه الأزمات.
والسؤال المحير الآن هو: ماذا ستنجبه الفنون بعد أهوال هذه الحروب التي نراها الآن، إنها أكثر بشاعة من تلك الحروب حينها، فقد كنا نرى -في الأفلام الوثائقية- أن القطارات حينها تحمل المسنين والنساء والأطفال إلى مناطق بعيدة لتأمينهم. أنها كانت أكثر إنسانية وأخلاقية مما نراه اليوم في غزة أرض العرب والعروبة. رأينا المجنزرات تمتطي الجثث، ورأينا القبور تُنْبَش ويمثل برفات الموتى، ورأينا قتل الأطفال مستباحا، ورأينا النساء تجرجرن من شعورهن وتعتقلن وتعذبن. والعالم يرى ويسمع، ومن الناحية الأخرى يرتدي قناع الإنسانية بمنظماته المتملقة الفجة!
لم تعد صرخات المدرسة التعبيرية التي غيرت العالم مجدية، لأن صرخات النساء في غزة بلا رنين لكنها الأقوى والأمر.. لم يعد للعالم آذان بالرغم من أن له عيوناً، فلماذا يصدع رؤوسنا بدعوى الأخلاقية الإنسانية التي سقطت وسقط معها وجه هذا العالم.
الرياض