• ×
admin

نقطتا الزيت

نقطتا الزيت


لميس ضيف

يروى أن تاجر قماش ضاج بحياته؛ ولم يعد يرى في الحياة ما يستثيره ويستهويه ،فدب الملل في نفسه وارتداه الضيق.. فأوصاه البعض بزيارة حكيم يقع قصره على بعد مسير 40 يوماً..ذهب التاجر آملاً في أن يجد عند الحكيم ترياقاً لما في نفسه من ضجر ونفور من ملذات الحياة ومباهجها.. فلما وصل لقصر الحكيم هاله ما يعيش فيه من سعة وأبهة.. اقترب منه الحكيم وسأله بانتباه- عن حاجته ،فلما عرفها هز رأسه قائلا: \" لا وقت لدي لأعلمك سر السعادة الآن؛ ولكني سأقترح عليك التالي: تمتع بجولة في قصري؛ ولك أن تشّبر غرفه كيفما شئت؛ في المقابل أشترط عليك أن تمسك أثناء تجوالك بهذه الملعقة التي تحمل نقطتي زيت؛ على نحو لا ينسكب معه الزيت..
شرع التاجر في التجوال في القصر الفخم وكان يصعد وينزل السلالم الرخامية وعيناه مثبتتان ، باستمرار، على الملعقة.. دخل بعض الغرف والردهات ،ولكنه سرعان ما ضجر واتخذ متكأً منتظراً فراغ الحكيم من ضيوفه..
اقترب منه الحكيم متسائلاً: أتجولت في القصر بهذه السرعة !! تفحصت ، في هذه العجالة، سجاجيدي الفارسية المعشقة بالحرير وفسيفساء غرفتي الاسبانية !! هل أعجبتك مكتبتي التي استغرق بناؤها 10 سنوات.. وماذا عن الرق الجميل في غرفة نومي..وهل تأملت كل اللوحات الزيتية البديعة في قصري.. بهذه السرعة !!
بإرتباك اعترف التاجر أنه لم ينتبه لكل هذا ،فقد كانت عيناه طوال الوقت معلقتان على الملعقة وما فيها من زيت.. خاطبه الحكيم هنا قائلاً\" :لم تنتبه بالطبع لأنك كنت أسير رغبة واحدة وهدف واحد؛ الحفاظ على الملعقة وما فيها؛ ولذلك السبب بالذات ضجرت من التجوال سريعاً؛ لأنك لم تستطع أن ترى ما حولك من جمال وروعة \".
  
كم واحداً منكم يا ترى قرأ في القصة أعلاه نفسه..؟
يسير في الحياة وعيناه على الترقية التي لم تأتِ.. وعلى نصفه الثاني الضائع وسط الزحام.. وعلى تنمية مدخراته وثروته.. وعلى أبنائه المتعثرين دراسياً.. وعلى كسر منافسيه ودهس مناوئيه.. وعلى امتلاك منزل.. وعلى الحفاظ على مكتسبات أو كرسي أو على أيٍّ من الأحلام والأماني والحاجيات ، المهمة حتماً؛ ولكنها ليست مرادفاً للحياة كما يخالون.
للبشر أولوياتهم.. ولكنهم غالباً ما يخطئون في تقديرها وصياغتها والعلة لا تكمن هاهنا.. بل تكمن في أن البعض يدور في فلك جزئيةٍ ضيقة من حياته: شيء لم يأتِ؛ أو شيء يخاف ضياعه؛ أو شيء لم يوافق تطلعاته.. وعادة ما يورث ذلك في النفس الضجر..فعندما يقضي المرء أيامه يفكر: كيف أخرج من طبقة اجتماعية لأخرى ؟ كيف سأفقد الوزن الذي يثقل عظامي ؟ ما عساي أن أفعل لأدفن صيت أعدائي -وغيرها من الهواجس التي تملأ فضاء البشر- يتحول المرء حينها لمستعمرة؛ والفكرة لمستعمر نزق.. عندئذ ينشغل المرء بالعيش عن الحياة \" والبون بين الاثنين شاسع لو تعلمون\" ويحول ذلك عادةً بين المرء وبين تلمّس مواطن الجمال في الحياة..
في هذه الحياة نقول- دائماً ما سيكون هناك شيء ناقص أو مفقود، ودائماً ما ستكون هناك أمنية مؤجلة.. وتركيز العين عليها وإغفال سواها لاشك عملية مضنية وغير مجدية.. وليست في النهاية سوى مدعاة للبؤس والضجر..
رحيق الكلام:
لن تستطيع أن تمنع طيور الهم أن تحلق فوق رأسك؛ ولكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش في رأسك.. سارتر

المصدر: صحيفة اليوم
بواسطة : admin
 0  0  1351