التعاطي مع الواقع
التعاطي مع الواقع
أ.د. حمزة بن سليمان الطيار
من التعاطي السلبيّ مع الواقع التنصّل من المسؤولية والتسبب في الإشكال، فبعض الناس يكون مهملاً في بذل الأسباب، فإذا رأى النتيجة الطبيعيّة لتقاعسه، تنصّل من تحمل مسؤولياته تجاه نفسه، والتمس أعذاراً من هناك وهناك ليلقي عليها اللومَ في ذلك، ولا شك أن في ذلك مجاملةً لمشاعره قد يخدع به نفسه، لكنه يحرمه من التركيز على السبب الحقيقي ومعالجة الأمور، والتغيير إلى الأحسن..
مسيرة الحياة في هذه الدنيا تتعرّج بالإنسان، ولا تسلك به جادّة واحدةً، فهو يضع قدمه في أول طريق الحياة وهو وليدٌ لا حيلة له، ثم تنمو قدراته الذهنية والبدنية والمالية شيئاً فشيئاً على حسب ما كتب له، ويتقلّب بين صحة وسقم، وتحقق أمل، ومواجهة فشل، يسرُّه حاله يوماً، ويتعكّر مزاجُه يوماً آخر، وفي كلِّ مرحلة من حياته يكون له واقع معيّنٌ من يسرٍ أو عسرٍ، أو نجاح أو إخفاق، ويجبُ عليه أن يتعاطى مع كلّ واقعٍ بالوسائل اللائقة به، ومهما كانت نتيجة تعاطيه معه فيستثمرها لمستقبل أفضلَ، فإن كان قد أجاد في التعامل مع واقعه الحاليِّ فليجعل ذلك تجربة لنجاحات أخرى في المستقبل، وإن كان قد تعثَّر اليوم فلينظر إلى الأسباب الحقيقية لهذه العثرة، ولْيحاول أن لا يقع في فخّها مرة ثانية، ولا ينهض من عثرات الحياةِ من تعوّد على سُوء التقدير لواقعه وأخفق في الاهتداء إلى التدبير الملائم له، بل العاقل اللبيب من يُعدُّ لاحتمالاتِ الواقع عدّتَها ويتخذَ لها احتياطاتها قبل أن تلمَّ به، فإن واتاه الواقعُ بعد ذلك بما يحلو له فذاك، وإلا لم يُؤخذ على حين غِرّةٍ، ولي مع التعاطي مع الواقع وقفات:
الأولى: الواقع إذا كان سارّاً مسعِداً، فتجب حراسته عمّا يمسُّ به، وصيانته عما يهدمه، والبناء عليه للوصول إلى المستويات العليا بدون اكتفاءٍ بالمستوى المتدنّي منها؛ فإن معاليَ الأمورِ لا ينبغي أن يوقف فيها دون أقصى الممكن، ولا يحسنُ التوسط فيها لمن سنحت له فرصة الكمال، كما قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
ولو نظرنا في أهم ما يحظى به الإنسانُ من الواقع الحسنِ لوجدناه مما لا يستهان في صيانته وزيادته، فمن ذلك حسن الديانة، فمن رزقه الله أن يكون متين الديانة، فلا يجوز له أن يقول: أنا من المتقين وهذا يكفيني، بل يجب عليه أن يشمّر في خشية الله تعالى، كما هو سنة أئمة المتقين، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم من الصديقين، ومن ذلك الأمن والاستقرار، فإذا منَّ الله تعالى على أهل بلد بنعمة الأمن والاستقرار والعيشة الكريمة، فمن اللازم صيانة ذلك وحراسته بوحدة الصّف ولزوم الجماعة، وبجعل السلم الاجتماعيِّ هدفاً أسمى لا يدخر جهد في كل ما يحقّقه، وبالمرابطة في كل الثغور الواقعية والافتراضية؛ دفاعاً عن واقع الوطن، ولا يسوغ أن يقول قائل: الوضع حسن، وسآخذ راحتي فيما آتي وما أذر؛ لأن هذا من قبيل التخلّي عن المكتسب، وكذلك من رزقه الله تعالى نعمة الصحة البدنية والنفسيّة والفكريّة، فيلزمه المحافظة عليها بما يصونها، والبعد عن كلِّ ما يعكّرها، ومن الغبنِ أن يستهتر بها اعتماداً على دوام الواقع الحاصل، وأن يتخيَّل أن بقاء السلامة مضمون له على كلِّ حال.
الثانية: من التعاطي السلبي مع الواقع الاستسلامُ له والاستكانة التامَّة لظروفه، وإظهار العجز التامِّ أمامه، والانشغال بجلد الذات على ماحصل، وهذا عكس المطلوب من المسلم، وهو أن يستعين بالله تعالى في أموره، وأن يكون صلب العزيمة، وأن لا تصيبه الصعوبات بالإحباط، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»، أخرجه مسلم، وكثيرٌ من المنقطعين وسط الطريق إنما انقطعت بهم السُّبل؛ لأنهم واجهوا واقعاً غير ميسورٍ نسبيّاً، بل يحتاج إلى بعض الاجتهاد ليتغلب عليه، لكنه اعتبر أن الحلَّ متعذِرٌ، فاستسلم لواقعه.
الثالثة: من التعاطي السلبيّ مع الواقع التنصّل من المسؤولية والتسبب في الإشكال، فبعض الناس يكون مهملاً في بذل الأسباب، فإذا رأى النتيجة الطبيعيّة لتقاعسه، تنصّل من تحمل مسؤولياته تجاه نفسه، والتمس أعذاراً من هناك وهناك ليلقي عليها اللومَ في ذلك، ولا شك أن في ذلك مجاملةً لمشاعره قد يخدع به نفسه، لكنه يحرمه من التركيز على السبب الحقيقي ومعالجة الأمور، والتغيير إلى الأحسن، ومن الأسباب التي يسهل تعليق الفشل عليها: العينُ والحسد؛ لأن الإصابة بهما خفيّة، ولا شك أن العينَ حقٌّ ولها تأثير ساحق، وأن الحسدَ شرٌّ مستطيرٌ ونارٌ محرقة، لكن الغالب أنهما ينالان المجتهد اللافت للنظر، لا المتكاسل الخامل، كما أن الإصابة بكلٍّ منهما سبب من أسباب التعثُّر، وهناك أسبابٌ أخرى كثيرة، فإذا أحسَّ الإنسانُ من نفسه خللاً، فليبحث عن السّبب الحقيقيِّ بكلِّ تجرُّدٍ وموضوعيَّة بعيداً عن انتقاءِ السبب الذي يخليه من المسؤولية.
الرياض
أ.د. حمزة بن سليمان الطيار
من التعاطي السلبيّ مع الواقع التنصّل من المسؤولية والتسبب في الإشكال، فبعض الناس يكون مهملاً في بذل الأسباب، فإذا رأى النتيجة الطبيعيّة لتقاعسه، تنصّل من تحمل مسؤولياته تجاه نفسه، والتمس أعذاراً من هناك وهناك ليلقي عليها اللومَ في ذلك، ولا شك أن في ذلك مجاملةً لمشاعره قد يخدع به نفسه، لكنه يحرمه من التركيز على السبب الحقيقي ومعالجة الأمور، والتغيير إلى الأحسن..
مسيرة الحياة في هذه الدنيا تتعرّج بالإنسان، ولا تسلك به جادّة واحدةً، فهو يضع قدمه في أول طريق الحياة وهو وليدٌ لا حيلة له، ثم تنمو قدراته الذهنية والبدنية والمالية شيئاً فشيئاً على حسب ما كتب له، ويتقلّب بين صحة وسقم، وتحقق أمل، ومواجهة فشل، يسرُّه حاله يوماً، ويتعكّر مزاجُه يوماً آخر، وفي كلِّ مرحلة من حياته يكون له واقع معيّنٌ من يسرٍ أو عسرٍ، أو نجاح أو إخفاق، ويجبُ عليه أن يتعاطى مع كلّ واقعٍ بالوسائل اللائقة به، ومهما كانت نتيجة تعاطيه معه فيستثمرها لمستقبل أفضلَ، فإن كان قد أجاد في التعامل مع واقعه الحاليِّ فليجعل ذلك تجربة لنجاحات أخرى في المستقبل، وإن كان قد تعثَّر اليوم فلينظر إلى الأسباب الحقيقية لهذه العثرة، ولْيحاول أن لا يقع في فخّها مرة ثانية، ولا ينهض من عثرات الحياةِ من تعوّد على سُوء التقدير لواقعه وأخفق في الاهتداء إلى التدبير الملائم له، بل العاقل اللبيب من يُعدُّ لاحتمالاتِ الواقع عدّتَها ويتخذَ لها احتياطاتها قبل أن تلمَّ به، فإن واتاه الواقعُ بعد ذلك بما يحلو له فذاك، وإلا لم يُؤخذ على حين غِرّةٍ، ولي مع التعاطي مع الواقع وقفات:
الأولى: الواقع إذا كان سارّاً مسعِداً، فتجب حراسته عمّا يمسُّ به، وصيانته عما يهدمه، والبناء عليه للوصول إلى المستويات العليا بدون اكتفاءٍ بالمستوى المتدنّي منها؛ فإن معاليَ الأمورِ لا ينبغي أن يوقف فيها دون أقصى الممكن، ولا يحسنُ التوسط فيها لمن سنحت له فرصة الكمال، كما قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
ولو نظرنا في أهم ما يحظى به الإنسانُ من الواقع الحسنِ لوجدناه مما لا يستهان في صيانته وزيادته، فمن ذلك حسن الديانة، فمن رزقه الله أن يكون متين الديانة، فلا يجوز له أن يقول: أنا من المتقين وهذا يكفيني، بل يجب عليه أن يشمّر في خشية الله تعالى، كما هو سنة أئمة المتقين، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم من الصديقين، ومن ذلك الأمن والاستقرار، فإذا منَّ الله تعالى على أهل بلد بنعمة الأمن والاستقرار والعيشة الكريمة، فمن اللازم صيانة ذلك وحراسته بوحدة الصّف ولزوم الجماعة، وبجعل السلم الاجتماعيِّ هدفاً أسمى لا يدخر جهد في كل ما يحقّقه، وبالمرابطة في كل الثغور الواقعية والافتراضية؛ دفاعاً عن واقع الوطن، ولا يسوغ أن يقول قائل: الوضع حسن، وسآخذ راحتي فيما آتي وما أذر؛ لأن هذا من قبيل التخلّي عن المكتسب، وكذلك من رزقه الله تعالى نعمة الصحة البدنية والنفسيّة والفكريّة، فيلزمه المحافظة عليها بما يصونها، والبعد عن كلِّ ما يعكّرها، ومن الغبنِ أن يستهتر بها اعتماداً على دوام الواقع الحاصل، وأن يتخيَّل أن بقاء السلامة مضمون له على كلِّ حال.
الثانية: من التعاطي السلبي مع الواقع الاستسلامُ له والاستكانة التامَّة لظروفه، وإظهار العجز التامِّ أمامه، والانشغال بجلد الذات على ماحصل، وهذا عكس المطلوب من المسلم، وهو أن يستعين بالله تعالى في أموره، وأن يكون صلب العزيمة، وأن لا تصيبه الصعوبات بالإحباط، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»، أخرجه مسلم، وكثيرٌ من المنقطعين وسط الطريق إنما انقطعت بهم السُّبل؛ لأنهم واجهوا واقعاً غير ميسورٍ نسبيّاً، بل يحتاج إلى بعض الاجتهاد ليتغلب عليه، لكنه اعتبر أن الحلَّ متعذِرٌ، فاستسلم لواقعه.
الثالثة: من التعاطي السلبيّ مع الواقع التنصّل من المسؤولية والتسبب في الإشكال، فبعض الناس يكون مهملاً في بذل الأسباب، فإذا رأى النتيجة الطبيعيّة لتقاعسه، تنصّل من تحمل مسؤولياته تجاه نفسه، والتمس أعذاراً من هناك وهناك ليلقي عليها اللومَ في ذلك، ولا شك أن في ذلك مجاملةً لمشاعره قد يخدع به نفسه، لكنه يحرمه من التركيز على السبب الحقيقي ومعالجة الأمور، والتغيير إلى الأحسن، ومن الأسباب التي يسهل تعليق الفشل عليها: العينُ والحسد؛ لأن الإصابة بهما خفيّة، ولا شك أن العينَ حقٌّ ولها تأثير ساحق، وأن الحسدَ شرٌّ مستطيرٌ ونارٌ محرقة، لكن الغالب أنهما ينالان المجتهد اللافت للنظر، لا المتكاسل الخامل، كما أن الإصابة بكلٍّ منهما سبب من أسباب التعثُّر، وهناك أسبابٌ أخرى كثيرة، فإذا أحسَّ الإنسانُ من نفسه خللاً، فليبحث عن السّبب الحقيقيِّ بكلِّ تجرُّدٍ وموضوعيَّة بعيداً عن انتقاءِ السبب الذي يخليه من المسؤولية.
الرياض