ضوابط الزواج «الصحية» - تنظيم الإصحاح المجتمعي
ضوابط الزواج «الصحية» - تنظيم الإصحاح المجتمعي
أ. د. محسن بن علي
خلق الله - سبحانه وتعالى - المخلوقات، وخص الإنسان والجن بعبادته، وخص الإنسان بعمارة الأرض.
ولاستمرار الحياة وعمارة الأرض، خلق الله الذكر والأنثى، واستودع نواة الخلية البشرية، في أنسجة وأعضاء الجسم البشري، الحقيبة الوراثية (المادة)، التي يكمن فيها سر استمرار الأجيال من خلال التوالد من المادة الوراثية للذكر والأنثى وهي ذاتها المسؤولة عن عوامل الصحة والمرض.
تندرج الأمراض التي تصيب الإنسان بصفة عامة تحت إحدى فئات ثلاث هي الأمراض المعدية (البيئية)، والأمراض الوراثية، والأمراض الوراثية البيئية (نتيجة عوامل مختلفة بيئية ووراثية) ومحصلة تفاعلاتها البيئية/ الوراثية.
ومن المعروف أن الأمراض البيئية هي في مجملها نتيجة الإصابة بميكروبات أو فيروسات، أو طفيلات أو نتيجة حوادث مختلفة. أما الأمراض الوراثية فتنشأ عن اعتلالات في الحقيبة الوراثية لدى الإنسان، إلا أنها تتأثر وتؤثر في مجريات الإصابة البيئية، وتتداخل معها في مدى إظهار الصورة المرضية ومضاعفاتها، فالمكونات الوراثية تلعب دوراً أساسياً ومُحدداً للطبيعة المرضية. كما أن معظم الأمراض - كداء السكري، وأمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض السرطانية - هي من حيث أسبابها تعود إلى تفاعل عوامل وراثية وبيئية كذلك الناتجة عن اعتلالات في الحقيبة الوراثية (الصبغيات)، \'\'كمتلازمة داون\'\'، التي لا يتم الكشف عنها مبكراً إلا خلال مرحلة الحمل، مع أنه من المعروف أن نسبة حدوث هذه الاعتلالات تتزايد مع تقدم الأم في العمر، واعتلالات أخرى يصاب بها الجنين أثناء الحمل تنتج عن تعرض الحامل لعوامل إشعاعية أو سمية أو محفزة للاعتلالات في الحقيبة الوراثية، وبالتالي فإن الأخذ بالأسباب الوقائية منها خلال فترات الحمل هي وسائل وقائية مساعدة.
وأخذا في الاعتبار أن الأمراض الوراثية، في معظمها، أمراض مزمنة مستعصية على العلاج الطبي الناجع وأن معالجتها طبياً وجراحياً، إن أمكن، مكلف وغير مضمون النتائج والخلو من المضاعفات في جميع الحالات، ولها مضاعفات صحية وتداعيات اجتماعية واقتصادية ونفسية تبعاً لذلك، لذا، اتجهت الجهود إلى التركيز على الجوانب الوقائية للحد من إمكانية حدوث ولادات مصابة بالأمراض الوراثية المستعصية على العلاج الطبي الناجع.
وتتمثل المجموعة المرضية الناتجة عن أسباب وراثية بحتة في أمراض الدم الوراثية، حيث تؤدي إلى فقر الدم الذي يؤدي إلى أمراض ومضاعفات صحية. وأمراض الدم الوراثية أكثر الأمراض وضوحاً من الناحية السببية وأنماط التوارث، حيث يمكن تتبع أنماط توارثها من الآباء إلى الأبناء، وبالتالي تحقيق أهداف التشخيص المبكر والتدخل المبكر كوسائل وقاية مبكرة، وهي في ضوء ذلك تحد من ولادة أطفال مصابين بالأمراض الوراثية التي تم تضمينها برنامج الفحص قبل الزواج (الزواج الصحي)، وهي الأمراض التي تحدث بنسبة عالية في عدة مجتمعات في مختلف أنحاء العالم ومنها المجتمع السعودي.
في ضوء مخرجات الدراسات والبحوث الطبية والمؤشرات الصحية الدالة على المعدلات المرتفعة للاعتلالات الوراثية، قامت الجهة الحكومية المختصة بالوقاية والرعاية والتأهيل - وزارة الصحة - بالتعاون مع مراكز البحوث العلمية والمؤسسات الصحية الأخرى بإنشاء لجنة وطنية تعنى بصحة الفرد والأسرة والمجتمع. كما تجاوب المجتمع المدني مع حاجات الخدمات الصحية - وقاية ورعاية وتأهيلاً - فأنشأت مجموعة عمل تطوعية وجمعية خيرية للأمراض الوراثية لدعم جهود القطاعين العام والخاص.
في هذا الصدد صدر عن مجلس الوزراء السعودي بناءً على اقتراحات اللجان المختصة، ودعم وزارة العدل، ووزارة الصحة في السعودية - عدة قرارات، تدرجت في عناصر الكشف الصحي وتطبيقاتها على أفراد المجتمع وتم ربط هذه القرارات بمستوى الوعي - الفردي والمجتمعي - وتنميته لإدراك أهداف البرامج الوقائية، والمتمثلة في برنامج الفحص قبل الزواج الذي بدأ العمل به كضابط صحي للزواج المختلط الجنسية في عام 1418هـ، واختيارياً للسعوديين في عام 1423هـ وصولاً لمرحلة الإلزام بإجرائه والإفادة من الإرشاد الوراثي الوقائي في ضوئه دون الإلزام بنتائجه وذلك بدءاً من عام 1425هـ وأخيراً توسيعه ليشمل الأمراض المعدية الخطيرة في عام 1429هـ، وتعديل مسمى \'\'البرنامج من الفحص قبل الزواج\'\' إلى \'\'الزواج الصحي\'\'. وقد بني هذا البرنامج على قواعد شرعية وأخلاقية وضوابط صحية، تشمل حقوق الجنين على والديه في الاختيار وتوخي مدعيات الإصحاح في جسده وعقله وتحقيق حقوق الفرد رجلاً وامرأة والوقاية من الأمراض والحصول على الاسترشاد الوراثي الوقائي وضمان السرية والخصوصية والتوعية والتثقيف بهدف الحد من الحمل المصاب وولادة أطفال مصابين بالأمراض الوراثية، وهي تراعي المقتضيات الشرعية \'\'بعدم ربط توثيق العقد بها\'\' فالبرنامج يهدف للتنوير، فللمقبلون على الزواج حق إتمام العقد فلا يلزمان بنتائج الفحص الصحي ومقتضياته الصحية وتنبع مقتضيات \'\'الزواج الصحي\'\' مما ورد في الكتاب والسنة، ومن ذلك ما ورد عن التوجيه النبوي الشريف، بتوخي الحرص في الاختيار للزواج، وما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المعلم الأول وتوعيته وتثقيفه وإرشاده لرجل بني فزارة، حيث جاء الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متسائلا: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \'\'هل لك من إبل؟\'\' قال: نعم، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \'\'فما ألوانها؟\'\' قال: حمر، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \'\'هل فيها من أورق؟\'\' قال إن فيها لورقا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم: فأنى أتاها ذلك؟ قال الرجل: عسى أن يكون نزعه عرق، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم: \'\'وهذا عسى أن يكون نزعه عرق\'\'. صحيح مسلم.
ويستدل من ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدرك - وهو الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى - أساسيات الوراثة وأنماط توارثها قبل 14 قرناً، وأنه شرع التوعية والتثقيف والإرشاد الوراثي لأفراد المجتمع. وأشار كذلك إلى توخي سبل الاحتياط في الاختيار الصحيح للزواج، حين وجه رجلا، مقبلا على الزواج، بالنظر إلى عيني المرأة لاستجلاء العيب الصحي، إن وجد، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: \'\'انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا\'\' مسند الإمام أحمد، أملاً في أبناء يتمتعون بالجسم السليم، والعقل السليم، بإذن الله.
يقوم المرشد الوقائي الوراثي ضمن برنامج الزواج الصحي بالتبصير والتنوير وشرح أنماط الوراثة، واحتمالات الإصابة بالمرض الوراثي وكيفية الوقاية منه في ضوء نتائج التحاليل المختبرية التي تشير إلى عدم التوافق في المادة الوراثية، وكذا الأمراض المعدية الخطرة، كما تعزز جهود الوقاية من قبل مأذوني الأنكحة بالشرح والتوضيح، ودعم المعرفة والتبصير بالنتائج المحتملة للزواج غير التوافقي وراثياً.
ويبقى دور الأفراد، ثم الأسرة والمجتمع ككل، في التفاعل مع برنامج \'\'الزواج الصحي\'\' ومعطياته الوقائية، وتوخي الإصحاح في الأبناء والجيل القادم، وهو - بحمد الله - يتحسن تباعاً، حيث قدر عدد من يحجم عن الزواج من الحاملين لمورثات أمراض الدم المعتلة من المستفيدين من البرنامج عند بدئه في عام 1425هـ بنحو 11 في المائة، وتحسنت هذه النسبة لتصل إلى نحو 40 في المائة من الحاملين للاعتلالات تقبل على الزواج بالرغم من دلالات الفحص الصحي، ويبقى البرنامج الوقائي في إطار التنوير وليس المنع. والأمل معقود على فاعلية التوعية في إيصال الرسالة الوقائية، وتفاعل المجتمع مع جهود الوقاية خدمة للصالح العام في تحقيق أهدافه المرجوة في تجنب ما من شأنه إصابة الأبناء بالأمراض الخطيرة والأمراض المزمنة وتحقيق هدف الإصحاح في المجتمع.
وفي مجال الأمراض المعدية الخطرة ببين المرشد الوقائي تداعيات الإصابة ووسائل العلاج إن وجدت توخياً لتجنب انتقال هذه الأمراض إلى الزوج (أو الزوجة) ودفع الضرر عن السليم، بإذن الله.
المصدر: صحيفة الاقتصادية