الغيرة المهنية.. هل هي مرض نفسي؟
الغيرة المهنية.. هل هي مرض نفسي؟
تحدث كثيراً بين الموظفين وأبناء الصنعة الواحدة ترسيخاً للمثل العربي «ابن مهنتك عدوك»
تحدث كثيراً بين الموظفين وأبناء الصنعة الواحدة ترسيخاً للمثل العربي «ابن مهنتك عدوك»
د. ابراهيم بن حسن الخضير
هذا السؤال طرحه زميل عليّ نتيجة حادثة مر بها اصدقاء له، فقد كان له صديق يعمل في مجال ما وكذلك خطيبة هذا الشخص تعمل في نفس المجال، وكانا يعيشان حياة جميلة فبالإضافة للخطبة فهناك الصداقة والعمل في نفس المجال، ولكن بعد عام من بداية خطبتهما، بدأت الخطيبة تتردد في سلوكياتها وتنسحب من العلاقة بهدوء. شعر خطيبها بهذا الأمر، وطرح عليها سؤالاً حول ملاحظاته عن تغير سلوكياتها وعاطفتها بالنسبة له، وإنه يلاحظ تغير عواطفها وتعاملها معه بصورة مختلفة عن السابق. كان ردها بأنها تكن له المودة والاحترام، لكن لا ترى بأن علاقتهما ستتطور أكثر من ذلك، وأنها ترى بأن فسخ الخطوبة أفضل من الطلاق، فيما لوحدث زواج!.
كان كلامها صدمة له، واستغرب حدوث ذلك، فلا يوجد أي سبب ولم يحدث أي طارئ جديد في الآونة الأخيرة على علاقتهما. كانا يستمتعان بعلاقة قوية، صداقة ممزوجة بالحب ويعملان في نفس المجال، ويستمتعان كثيراً بمناقشة ما يحصل في عملهما.
سألها عن سبب هذا القرار الخطير، وكيف تبرر هذه الخطوة الجارحة من ناحيتها تجاه علاقتهما التي يعتقد بأنها علاقة قوية، ناجحة، ليس هناك ما يعكر صفوها ولم يحدث من طرفه أي شيء يسيء لها أو للعلاقة بينهما. كان ردها، إنها لا ترى مستقبلاً لهذه العلاقة بينهما، برغم أنها هي من بدأ العلاقة خلال عملهما معاً في نفس المجال!.
شرح لها بأن هذا ظلم له، وانه مخلص في علاقته بها وينظر بإيجابية لعلاقتهما في المستقبل. لكنها رفضت كل العروض التي تقدم بها وأنهت العلاقة.
أخذ الرجل يحلل كل عمل قام به، فلم يجد أي عمل يسيء لخطيبته، بل على العكس كانت جميع أعماله نحوها أكثر من جيدة وإيجابية. أخذ يتقصى ما الذي حدث خلال هذا العام من علاقتهما، ولكنه لم يصل إلى أي نتيجة بأنه قام بعمل سيئ أو سلبي تجاه خطيبته أو العلاقة التي تربطهما سوياً.
هي لم تقل شيئاً لتبرير رفضها لخطيبها، ولكن لمحت لمن حولها بأنه تقدم كثيراً في عمله عنها!. هذا الأمر جعلها تشعر بالخطر من الزواج من رجل طموح سوف تعيش في ظله، لأنها أيضاً شخصية طموحة وكانت تعتقد بأنها هي من سينجح أكثر وانه هو من سيعيش في ظل شهرتها ولكن انقلب الأمر مما جعلها ترفض الارتباط به. برغم اللوم الذي تلقته من صديقاتها وزميلاتها في العمل بسبب هذا الأمر والخطأ الذي ارتكبته بترك رجل طموح وناجح في عمله، لكنها أصرت على فكرتها بأنها ترفض أن تعيش في ظل أي شخص مهما كان قربه منها، خاصة أن تعيش في ظل زوج طموح، فعل الكثير خلال عام، بينما هي لم تستطع أن تفعل نصف ما فعله، وأن نجاحه في العمل سيجعلها الجانب الأضعف في العلاقة الزوجية بحكم أنهما يعملان في نفس المجال!
كان الاستغراب والرفض هو ردة فعل قريباتها وصديقاتها وزميلاتها، لكنها هي كانت تعرف بأنها لن تستطيع أن تعيش في ظل زوجها والذي هو زميلها في العمل وأن المستقبل سيكون أكثر إيلاماً بالنسبة لها لأنها لا تريد أن تتزوج من رجل في نفس مجال عملها بينما يتفوق هو عليها ولن تستطيع اللحاق به مما يجعلها دائماً تجري خلفه وهذا ما لا تريده! وأنها تفضل أن تتزوج رجلاً لا يعمل في مجال تخصصها، وأن يكون أقل منها قدرات حتى تستطيع هي أن تصبح الرقم الأكبر في الزواج، وأن الزوج يعيش في ظل نجاحها هي لا هي تعيش في ظل نجاحه هو.
قد تكون هذه القصة بها بعض الغرابة، لكنها حدثت، وربما تحدث مع أشخاص آخرين يعملون في نفس المجال. المثل العربي القائل: \"ابن مهنتك عدوك\"، قد يكون فيه شيء من الصحة. فهناك أشخاص تربطهم الصداقة ويعملون في مهنة واحدة، وحين تقابلهم تجد أن علاقتهم جيدة جداً، ولكن عندما تقابل أحدهما لوحده ويصل إلى الحديث عن الصديق أو الزميل في المهنة، تجد هذا الشخص يمتدح زميله أو صديقه وبعد ذلك يتبع هذا المديح بلكن!. لكن هذه تحلق بمثالب وبعض المآخد الكبيرة والصغيرة على الزميل أو الصديق. ثمة شيء في اللاشعور يجعلنا دائماً نشعر بالغيرة المهنية من زملاء المهنة أو رفاق العمل. وهذا أمر شاهدته في عيادتي وفي حياتي داخل مستشفى كبير يعمل فيه آلاف الموظفين على مدى طويل من الزمن. تلقائياً، فكما يسترعي انتباه طبيب الأسنان، اسنان الأشخاص الذين يمر بهم، وكذلك يفعل طبيب العيون، فإن الطبيب النفسي - كما قال الممثل ريتشارد قير في أحد أدواره عندما كان يمثل دور طبيب نفسي، بأنه يراقب سلوكيات عامة الناس في المطعم - لا شعورياً يربط الأفعال التي تحدث أمامه بمهنته، وهكذا تجد أنك قد قمت بتحليل ما قاله طبيب زميل عن أحد زملائه بعد دبلاجة المديح، تأتي لكن! وعادة يتبعها السلبيات التي يقولها هذا الطبيب الزميل عن زميله الذي ربما كانا منذ دقائق معاً وتعتقد بأنهم أخوة!.
الغيرة المهنية أعتقد انها أمر طبيعي، حتى في الأمثال الشعبية في الدول العربية تشير إلى هذه العلاقة، علاقة الغيرة بين أبناء المهنة الواحدة. ففي مصر يقولون \"ما عدوك إلا ابن كارك\"، وهذا يعني بأن عدوك هو ابن مهنتك، وهو دفاع نفسي من الدفاعات النفسية التي تجعلنا نقلل القلق عندنا من أن يكون رفيق المهنة الذي نرتبط معه بعلاقة زمالة أو صداقة قد يفوقنا في المهنة التي نعمل بها سوياً، لذلك نجد أنفسنا بلا وعي أحياناً نحاول الانتقاص من زملاء المهنة بصورة ما. قد نكيل له المدح في البداية عندما نتحدث ولكن بعد ذلك ندخل جمل الذم داخل أحاديثنا عن هذا الزميل حتى تصل رسالتنا إلى المستمعين بأننا رغم مدحنا لهذا الزميل إلا أننا أيضاً أدخلنا الأمور السلبية المهنية لهذا الزميل حتى يعرف من نتحدث معه بأننا أفضل منه، وربما ألحقنا الحديث بالحديث عن أنفسنا واننا لسنا مثله نفعل ما يفعل!. نفعل ذلك أحياناً دون أن نشعر بحقيقة ما نقوم به، فثمة أوقات كثيرة تظهر الغيرة من الآخرين الذين يشاركوننا المهنة بأسلوب مشوش غير واضح، وهذا يدل على أننا أحياناً نقول أو نفعل أشياء لنقلل من قيمة زميل في العمل أو في نفس المهنة حتى وإن لم يكن معنا في نفس مكان العمل الذي نعمل فيه.
الغيرة المهنية قد تبدو معقدة ومشوشة بعض الشيء من الناحية النفسية، فثمة أحياناً نكون نقصد الإساءة إلى شخص ما زميل لنا في المهنة، ويظهر ذلك واضحاً جلياً في طريقة الحديث التي نطرح فيها العبارات التي نتفوه بها، بينما في أوقات اخرى لا نكون نقصد الإساءة لزميل أو صديق داخل المهنة التي نعمل بها سوياً بشكل واضح ووعي تام، ولكن تظهر عبارات الذم أو العبارات التي تحمل إساءة أو أمورا سلبية خلال أحاديثنا المبطنة من داخل الجمل التي نحاول أن نجعلها غير واضحة تمام الوضوح ولكن تخرج كما أشرت سابقاً يشوبها عدم الوضوح ومشوشة، لأنها تحدث أحياناً نتيجة زلات لسان غير متعمدة، أو أن تخرج دون وعي تام منا، وإنما كدفاع نفسي عن انفسنا وتخفيف القلق الذي نشعر به تجاه تفوق بعض زملائنا في المهنة علينا، فنقوم بالحديث عنه بصورة سلبية غير مباشرة.
هل يحتاج الشخص الذي يعاني من الغيرة المهنية إلى استشارة مختص؟ في الحقيقة لا حاجة لذلك، إلا إذا تجاوز هذا الأمر وأصبح يشكل عائقا وخلافات مع الزملاء.
هناك زميل ما أن يجلس مع أي شخص فإنه يتكلم بصورة سلبية عن جميع زملائه في المهنة ولا يستثني من العيوب المهنية إلا نفسه، فهو الوحيد الذي تتوفر فيه خصائص الطبيب الناجح في مهنته وأما البقية فهم ساقطون في المهنة.. مثل هذه الشخصية فعلاً بحاجة للعلاج.
المصدر: صحيفة الرياض