أجراس الترجمة.. فلتقرع
أجراس الترجمة.. فلتقرع
فاطمة إلياس
لم تخدم الترجمة على مر التاريخ أمة كما خدمت الأوروبيين في عصورهم المظلمة، فقد انتشلت الترجمة، والتفاعل الثقافي مع الآخر، أوروبا المسيحية من ظلام العصور الوسطى إلى عصر النهضة. والواقع أنه لولا مراكز الترجمة التي شيدت في توليدو في إسبانيا، وفي سيسيلي في إيطاليا، ومن قبلها مشاريع الترجمة الضخمة التي أقامها العباسيون في بغداد، لما كان لهذا التفاعل الحضاري أن يحدث، ولما قدر لأوروبا أن تنهل من معين الحضارة الإسلامية في الأندلس حين كانت ثقافتنا هي السائدة والمتفوقة.
وتتمحور أهم ملامح ذلك التلاقح الثقافي والأدبي بين العرب والغرب في تأثير الأدب العربي في الأدب الأوروبي القروسطي الذي لا يزال يشكل عيون كلاسيكيات الأدب الغربي، وفي تأثير الثقافة العربية في \"رومانس\" العصور الوسطى الأوروبية.
ومصطلح \"رومانسRomance \" أو رومانثي يختلف عن مصطلح الرومانسية أو رومانسي، وهو مصطلح فضفاض كان يطلق على أي حكاية طويلة بالشعر الفرنسي. وبنهاية العصور الوسطى أصبحت كلمة \"رومانس\" تطلق على أي حكاية عن الفروسية والمغامرات في الأزمنة البعيدة الغابرة تتخللها عناصر خيالية وأسطورية، وأشهرها حكايات مغامرات فرسان المائدة المستديرة أمثال لانسلوت وتريستان في ملحمة الملك آرثر الأسطورية؛ وكذلك حكايات كانتربري، وغيرها من قصص المغامرات والحب الأسطورية التي تبنت التقليد السردي العربي من ناحية البناء والإطار القصصي العربي كما نجده في حكايات \"ألف ليلة وليلة\" و\"كليلة ودمنة\" الذي يمنحها الوحدة الأدبية حيث يربط بين قصص مختلفة على ألسنة رواة متعددين ومختلفين.
كما تبدو ملامح هذا التأثير في تسرب التقليد الشعري العربي للحب العذري لكثير من روائعنا التراثية مثل \"قيس ولبنى\" و\"ليلى والمجنون\" إلى قصص الرومانس الأوروبية كما في قصص \"تريستان وإيزولتو \"أوكاسين ونيكوليت.
ويمتد هذا التأثير ليشمل شعر التروبادور الذي يشبه إلى حد كبير الموشحات الأندلسية سواء من ناحية الشكل أو المضمون الذي يركز على القيمة العليا للحب العذري، ويعكس أيديولوجية الحب العربية العريقة التي نجح ابن حزم في توصيفها ورصدها في كتابه \"طوق الحمامة\".
ويعتبر كتاب \"فن الحب\" لإندرياس كابلانوس تقليدا صارخا لـ\"طوق الحمامة\" بل وسرقة أدبية فوجئت به كمرجع يشيد به النقاد الغربيون دون أن يأتوا على ذكر ابن حزم!
والأمثلة كثيرة على نقل وتقليد كثير من تراثنا عن طريق الترجمة دون الإشارة إلى ذلك
في كثير من الأحيان، كما نجد في \"الكوميديا الإلهية \" لدانتي المأخوذة عن قصة المعراج، ورومانس \"السير جوين والفارس الأخضر\" المأخوذة من مغامرات السندباد، وقصة \"الخضر\" القرآنية.
ويبقى الفضل لأولئك الباحثين الغربيين الذين أنصفوا الثقافة العربية وفتشوا عن كنوزها في كتبهم.
ويبقى الدور علينا الآن بعد أفول نجمنا وانحسار مدننا أن نفتح الأبواب والنوافذ لهواء جديد نجدد به دماء ميراثنا الحضاري. ولن يتأتى لنا ذلك حتى نعي أهمية الترجمة وننهج نهجهم بأن نجعلها مطيتنا لاختراق الثقافات واستيعاب أسرار الحضارات المتفوقة وتغذية ثقافتنا لعله غدا يخفق جناحاها.
المصدر: صحيفة الوطن