حضارة
حضارة!
عزيزة المانع
قد يظن البعض أن قواعد السلوك المهذب مما يتصل بآداب السلام أو الحوار أو الطعام أو اللباس أو ما ماثلها مما يعرف في لغة العصر الشائعة بالاتيكيت، إنما هي آتية في أصلها من الثقافة الغربية المشهورة بالحضارة والبروز في جوانب الذوق وحب الفنون والجمال. لكن من يقرأ في كتب الأدب والتراث العربية يجد شيئا مختلفا، فالعرب رغم ما كانوا عليه في الأصل من البداوة والعيش على الفطرة، هم بعد الإسلام وبعد احتكاكهم ببعض الحضارات العالمية الأخرى، طوروا لأنفسهم قواعد سلوكية خاصة بهم بالغة الأناقة والتهذيب، ومن يقرأ كتاب (الموشى) للوشاء، من أدباء القرن الثالث الهجري يتبين له كيف صارت ثقافة العرب متأنقة حد الترف والبذخ، خاصة أيام العباسيين بعد أن عمرت خزينة الدولة الإسلامية بالمكاسب المادية.
وقد قرأت في كتاب المستطرف الجديد منسوبا إلى كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، قائمة طويلة من قواعد السلوك المهذب أثناء إقامة الولائم، استوقفني فيها ما هي عليه في بعض بنودها من تشابه مع ما هو ممارس في الدول الأوروبية في أيامنا هذه، حتى لتكاد تشك في أن تلك القائمة موضوعة في فرنسا أو انجلترا أو غيرهما من الدول الأوروبية. فمن بين البنود المثيرة للاستغراب ما يلي:
ــ إطالة الجلوس على المائدة.
ــ إدارة الحديث وعدم التزام السكوت.
ــ تقديم ألوان الأطعمة بالتعاقب.
ــ تقديم الفاكة أولا ثم اللحم والثريد ثم الحلويات.
ــ إذا كان المضيف عنده لو طعام واحد فعليه أن يخبر ضيوفه بذلك.
ــ كتابة نسخة بقائمة الأطعمة التي ستقدم وعرضها على الضيوف.
ــ عدم الإلحاح على الضيف بالأكل.
ــ على الضيف أن يأكل مما يشتهي فلا يتصنع ولايتمنع.
ألا تبدو هذه القواعد السلوكية في تقديم الطعام أقرب إلى القواعد الغربية؟، ليس هذا فحسب بل أيضا ألا يظهر بعضها منافيا لما تزخر به الثقافة الشعبية في مجتمعاتنا العربية من مفاهيم وقيم؟، مثلا في الثقافة الشائعة في المجتمع العربي أن الاجتهاد في (الإلحاح على الضيف بالأكل)، هو دليل على الكرم وتعبير عن الاهتمام به. كما أن الضيف في الثقافة الشعبية، غالبا ما يعمد إلى (التصنع والتمنع) المنهي عنهما في تلك القائمة. وقد يكون ذلك موروثا ثقافيا قديما منذ أن كان كثيرون من الناس لايجدون كفايتهم من الطعام، وعند استضافتهم تمنعهم كرامتهم من الإقبال على طعام مضيفهم خشية أن يقال عنهم (ماشافوا خير). وقد يكون العكس أحيانا، فيمتنع الضيوف عن الأكل تجنبا لإنهاك كاهل مضيفهم عند إهلاك طعامه كله.
المصدر: صحيفة عكاظ